قبل «كورونا» وتداعياتها كان كابوس مظاهرات «السترات الصفراء» يؤرق الرئيس الفرنسي ماكرون، ويهدد عهده بقوة؛ فمعدلات البطالة والتحديات الضريبية باتت تشكل شرخاً يهدد سلامة المجتمع والسلم الأهلي.
ماكرون جاء إلى الحكم محملاً بطموحات اقتصادية عريضة، وهو يجيء في منصب له إرث صنعه عمالقة مهمون قبله، من أمثال ديغول وميتران وشيراك. ولكن الرجل يبدو أنه يدرك أنه أمام فرصة تاريخية مع انسحاب ترمب أميركا من المشهد الدولي، واهتمامه بالمشهد المحلي، وترهل تحالف «ناتو» وقرب انتهاء ولاية المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل.
هذا المشهد من شأنه أن يتيح لفرنسا فرصة لبسط نفوذها الاقتصادي في منطقة تعتبر تقليدياً من مناطق نفوذها. والمقصود هنا بناء محور فرنسي سياسي واقتصادي على الهلال الإيراني في المنطقة الممتد من لبنان مروراً بسوريا والعراق وصولاً إلى إيران. لدى فرنسا مجموعة مؤثرة ومهمة جداً من الشركات الناجحة مثل «توتال» (المهتمة بالنفط والغاز في هذه الدول عموماً وفي البحر المتوسط تحديداً)، و«تاليس»، و«طومسون»، و«آلستوم»، و«إيرباص»، و«ألكاتيل»، و«رينو»، و«بيجو»، و«دوسو» (المنتجة لطائرات رافال المقاتلة)، وهذه الأخيرة تعتبر المنتج الأوروبي الوحيد (بعد انحسار الإنتاج البريطاني) القادر على مواجهة الأجيال الجديدة من النفاثات المقاتلة، مثل «إف 35» الأميركية، و«سو 35» الروسية، و«جي 20» الصينية، ونجحت «رافال» في إثبات جديتها مع كل من الهند ومصر رغم المنافسة الحادة من المصنعين الآخرين.
ماكرون يدرك أنه أمام فرصة لخلق وظائف لأعداد جيدة من الفرنسيين إذا ما نجح في «بيع» فكرة أن فرنسا صديقة للمحور، وأنها حريصة على «الاستقرار»؛ مما يعني بقاء الحال كما هو عليه لإيران ومرتزقتها من أصحاب الأعلام الصفراء. قدرة فرنسا مميزة وفريدة في نشر القوى الناعمة والخشنة في آن، فتارة تنشر الباليه والأوبرا والفرانكوفونية عبر جامعتها «السوربون» وثقافتها عبر متحفها «اللوفر» ودور الأناقة والفخامة من أمثال «لوي فيتون»، و«شانيل»، و«هيرميس»، و«كريستوفل»، و«باكاراه»، وفي الوقت نفسه تنشر المفاعلات النووية والدبابات والمقاتلات النفاثة والصواريخ! إنها فرنسا بإرثها وشخصيتها، أو كما وصفها ذات يوم أديبها الأشهر فيكتور هوغو «فرنسا عظيمة لأنها فرنسا».
فرنسا تدرك أن تاريخها صانع إرث الحرية والفن والأدب، لكنه تاريخ معقد فيه الاستعمار والعبودية، ويكفي أن تعلم أن الكلمة العنصرية الأكثر قبحاً (نيغرو) هي كلمة فرنسية الأصل تعني الأنف الكبير. هكذا كان الرجل الأبيض الفرنسي يصف الأفريقي الذي استعمره.
وفي مقابلة قديمة جمعتني مع إيريك رولو وقت أن كان رئيساً لتحرير صحيفة «لوموند» في عزها، وكانت تتبع سياسة عدم نشر أي صورة في الجريدة، وكان رولو يدافع عن ذلك بقوله «الصورة تغني عن ألف كلمة إلا إذا كانت الكلمة فرنسية، فهي تغني عن ألف صورة».
هناك حالة من الكره والمحبة للفرنسيين في الشرق منذ حملة نابليون على بلادهم، لا شك أن فضول المستشرق الفرنسي عن بلاد المشرق كان عظيماً، ولعلهم أهم من كتبوا عن المنطقة، إلا أن إرثهم السياسي لم يكن عظيماً. اهتموا بالتعليم منذ رحلة الشيخ رفاعة الطهطاوي إلى باريس، وكتابته عنها وصولاً لمدارسهم المنتشرة والتي تركت فائدة مهمة. اقرأوا لأمين معلوف والطاهر بن جلون وغيرهما عن أثر التجربة الفرنسية عليهم. وركز على ذلك الأمر بشكل مدهش الكاتب الفرنسي اللبناني الأصل أمين معلوف في كتابه الممتع «مقعد على ضفاف السين»… أربعة قرون من تاريخ فرنسا والذي اختصر فيه سحر فرنسا عليه بتركيزه على تأثير الكلمة وبزوغ الهويات الطائفية ومفهومه للعقد الاجتماعي الجديد والعلمانية واستخدام الدين. ولكن اليوم هناك «ماكرونية ماكيافيلية» تظهر لتجعل من الغاية الاقتصادية مبررا لكل وسيلة سياسية والتي ستضع شعوباً تحت أغلال الهيمنة الطائفية على حساب الحرية والمساواة والأخوة التي تشكل عصب المفهوم المدني الفرنسي.
ماكرون يريد كسب الوقت واستغلال علاقته الجيدة مع الرئيس الأميركي ترمب (المنشغل الآن بالانتخابات الرئاسية)، فإذا فاز بايدن سيضمن تأييده لحراك فرنسا مع محور إيران، وإذا فاز ترمب سيكون لكل حادث حديث.
ما خفي عن ماكرون أن الشعوب لا تنسى من كانت لديه فرصة أخذ موقف حاسم وفاته أن يفعل ذلك.