Site icon IMLebanon

وجهتا نظر من المبادرة الفرنسية

 

دخل لبنان في مرحلة سياسية جديدة مع تكليف الرئيس مصطفى أديب عنوانها تجاوز مرحلة الفوضى والانهيار، وتقطيع الوقت إلى ما بعد الانتخابات الأميركية. وأوضَح تعبير عن ذلك هو إمهال الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الأكثرية الحاكمة 3 أشهر للتغيير الحقيقي.

لم يكن ماكرون يهوِّل عندما تحدّث عن الحرب الأهلية التي ينزلق إليها لبنان، ولا وزير خارجيته جان إيف لودريان الذي حذّر من اختفاء الدولة، فلبنان كان على قاب قوسين أو أدنى من الانفراط والتفكك والسقوط في قعر الهاوية لولا اليد الفرنسية التي امتدّت إليه في اللحظة الأخيرة لإنقاذه.

 

وقد أثبتَ الدور الفرنسي المنسّق مع الولايات المتحدة، وفق معظم التصاريح الفرنسية والأميركية، النظرية القديمة بأنّ المجتمع الدولي يرفض انهيار لبنان، وانه يسمح باهتزازه فقط من أجل انتزاع التنازلات الممكنة، ولكنه في الوقت المناسب يتدخَّل منعاً لسقوطه، وهذا ما حصل مع التدخُّل الفرنسي الذي يفترض ان يكون نجح بانتزاع التنازلات التي تمكِّن حكومة أديب من تحقيق الإصلاحات التي عجزت عنها حكومة الرئيس حسان دياب.

 

فلو كان المجتمع الدولي يريد انهيار لبنان من أجل إلهاء «حزب الله» بالوحول اللبنانية وإفقاده ورقة الدولة التي يتلطّى خلفها، لكان واصَلَ، بكل بساطة، ضغوطه وحصاره، لا سيما انّ المسافة الفاصلة عن الانهيار لم تكن تتعدى الأسابيع القليلة، ولكنه فعل عكس ذلك تماماً، حيث سارعَ إلى إنقاذه، وهذا هو الأساس، أمّا القول إنّ هذا الإنقاذ يشترط الإصلاحات ضمن فترة زمنية محددة، فهو مجرد تفصيل.

 

وفي هذا السياق، تبرز وجهتا نظر متناقضتان حيال الدور الفرنسي، حيث تعتبر الوجهة الأولى انّ المبادرة الفرنسية أنقذت العهد وأمّنت له الاستمرارية بعدما كان مهدداً بالسقوط مع سقوط الدولة، وبالتالي أعادت تعويمه، ورفعت الضغوط عن «حزب الله» وأدّت إلى ترييحه ومَدّته بالوقت الذي كان بحاجة إليه تَجنّباً لفصل مساره عن المسار الإيراني بعد الانتخابات الأميركية في ظل خشيته من خسارة الورقة اللبنانية قبل هذه الانتخابات.

 

وترى هذه الوجهة أنه لولا انفجار 4 آب وتَبعاته لَما كان تخلّى الفريق الحاكم عن حكومة دياب قبل انقشاع الرؤيا الإقليمية مع حلول نهاية السنة الحالية، فقدّمت له باريس الوقت الذي يحتاجه من دون تنازلات تُذكر، فلا كلام عن السلاح ولا حتى اشتراط الانتخابات المبكرة، إنما مجرد تعهدات شفهية بإصلاحات لا يمكن الجزم بتنفيذها، فأطاح الفرنسي بالمومِنتم الذي كان يمكن استغلاله لأقصى حدود بغية دفع الحزب وخلفه طهران إلى تسوية سياسية نهائية في لبنان بدلاً من تسوية مرحلية يعيد فيها الحزب تعزيز وضعه مراهِناً على تبدّل المعطيات الخارجية لمصلحته.

 

فـ«حزب الله»، الذي كان يشترط التمثيل السياسي في الحكومات في رسالة إلى قواعده والخارج بأنه لا يقبل الإقصاء أو الاستبعاد تحت أي عنوان تكنوقراطي او غيره يمهِّد لتكريس أعراف جديدة على مستوى السلطة التنفيذية، لم يشدِّد في استشارات التأليف على حتمية مشاركته في الحكومة، ما يؤشّر إلى ارتياحه الضمني من مواقف الرئيس الفرنسي الذي أعاد، كراعٍ للملف اللبناني مُفَوّضاً من الأميركيين والأوروبيين، إحياء مقولة الشِق العسكري للحزب المصنّف لدى هذه الدول بالإرهابي، والشق السياسي المنتخب ديموقراطيّاً والذي لا يمكن تجاوز موقفه السياسي أو مقاربة أي مسألة سياسية سوى بالتوافق معه، من الانتخابات المبكرة التي رَحَّلها ماكرون إلى وقت آخر بحجّة انّ الأولوية هي لمعالجة الأزمة المالية، إلى سلاحه الذي ربطه بالظروف الخارجية والعقد السياسي الجديد الذي يستدعي طاولة حوار في الداخل او الخارج برعاية فرنسية.

 

فالمستفيد الأول من الدور الفرنسي هو فريق 8 آذار الذي تنفّس الصعداء وأزاحَ عن كاهله الضغوط الهائلة التي انصبّت عليه من كل حدب وصوب، بدءاً من الغليان الشعبي الذي تم تنفيسه مع التسوية الجديدة، مروراً بالمعارضة السياسية التي تمّ احتواء معظمها فباركَت التسوية وسارت في ركبها، وصولاً إلى الحصار الخارجي الذي تكفّل ماكرون بضبط إيقاعه. وبدلاً من ان تكون الأنظار شاخصة على فشل العهد والحزب وتحميلهما مسؤولية إيصال الأزمة إلى ما وصلت إليه، كما فشلهما في إخراج البلد من هذه الأزمة، وانّ الحلّ الوحيد يكمن في كَفّ أيديهما وإقامة انتخابات مبكرة لإعادة إنتاج كل السلطة، تحوّلت كل الأنظار إلى المبادرة الفرنسية بشقّيها المحلي (تكليف وتأليف ودينامية متجددة) والخارجي (مؤتمرات مالية واقتصادية وحراك الرئيس الفرنسي وعودته المرتقبة الى لبنان)، فيما فريق السلطة سيضع كل جهده لتنفيس الحماس الفرنسي وفَرملة الدينامية الماكرونية بغية إبقاء القديم على قدمه.

 

وفي المقابل هناك وجهة نظر أخرى تعتبر انّ فرنسا ماكرون ليست سوريا الأسد، وانّ باريس هي عاصمة صديقة للبنان، وتشكّل جزءاً لا يتجزأ من الشرعية الدولية، ودخولها القوي على المسرح اللبناني يفترض ان يُقلق الفريق غير السيادي لا الفريق السيادي الذي تُقلقه دمشق وطهران وكل ما يتصل بمحور الممانعة، فضلاً عن انّ ماكرون لم يعوِّم أهل السلطة الذين حَمّلهم مسؤولية الأزمة الحادة وصارحهم بأنّ ثقة الناس والخارج بهم مفقودة، ومنحهم فرصة أخيرة ضمن فترة محددة لتغيير سلوكهم ونهجهم، وإلّا سيتخلى عن مبادرته وترك لبنان لمصيره.

 

ويرى أصحاب وجهة النظر هذه انّ الدخول الفرنسي على خط الأزمة المالية يشكل عامل توازن فعلي مع إيران، ولبنان بأمسّ الحاجة لهذا التوازن، وهو أوّل دخول دولي بهذه الجدية والقوة. وبالتالي، يفترض بـ»حزب الله» ان يرتاب لا الفريق المناهض للحزب، ومع الدور الفرنسي يتحوّل الدور الإيراني إلى ثانوي على غرار الدور الروسي في سوريا الذي حوّل الدور الإيراني إلى ثانوي.

 

ومن الواضح انّ باريس تتعامل مع طهران على نَسق تعامل موسكو مع طهران، فلا قطيعة، ولا «شيك» على بياض، وذلك من أجل الاحتواء لا المواجهة والصدام تهيئة لمرحلة ما بعد الانتخابات الأميركية، حيث انّ واشنطن بذاتها لا تسعى إلى إنهاء الدور الإيراني في المنطقة، بل إلى تعديله من دور عسكري وأمني إلى سياسي.

 

ومن كان يظنّ انّ الدخول الفرنسي على خط الأزمة اللبنانية سيُفضي إلى نزع سلاح «حزب الله»، فهو واهِم، وقد أكد ماكرون بنفسه انّ مسألة سلاح الحزب يجب معالجتها، ولكن وفق ظروف إقليمية مواتية وحوار داخلي برعاية فرنسية يترافق مع التحولات الخارجية، فيما كل الهدف من المبادرة الفرنسية هو تجنيب لبنان تَفكّك الدولة والفوضى والحرب، ولا أحد لديه مصلحة أساساً بعودة شبح الحرب الذي يقضي على الأخضر واليابس ويخرج منه الجميع بخسارة موصوفة.

 

والحلول لن تكون بالضربة القاضية، بل على مراحل ومن خلال التراكم، والفريق الحاكم أصبح مقيّداً، فإذا لم يلتزم بالمبادرة الفرنسية ينهار لبنان، وإذا التزمَ يسلك البلد سكّة الإصلاح الذي سيقود تلقائيّاً إلى تقليص دور هذا الفريق الذي لن يكون له أي رصيد في الإصلاحات التي أُجبر على اعتمادها.

 

وعلى رغم تفهُّم المجتمع الدولي لوجهة النظر اللبنانية بأنّ الحلّ الفعلي للأزمة اللبنانية يكون من خلال تسليم «حزب الله» لسلاحه، ولكن هذا الحلّ لم يأت أوانه بعد، ولن يتمكّن الفريق السيادي من حلّ هذه المعضلة لوحده ومن دون مؤازرة المجتمع الدولي، وذلك على غرار إخراج الجيش السوري من لبنان الذي لم يتحقق إلّا بقرار دولي. وبالتالي، على هذا الفريق ان يكون في موقع المواكب للمساعي الدولية لا المتناقض معها، وان يدفع باتجاه ترجمة ما وعد به ماكرون بأنّ المرحلة الثانية بعد تلافي الانهيار ستكون الشروع في بحث السلاح ومستقبل النظام السياسي، وبالانتظار يجب السهر والضغط على تأليف حكومة غير خاضعة لنفوذ فريق السلطة وتأثيره، والسير بالإصلاحات المطلوبة بالعصا الفرنسية، الأمر الذي يشكّل مصلحة لبنانية أكيدة.

 

والثابت في كل هذا المشهد انّ الملف اللبناني أصبح في عهدة فرنسا، وهذه فرصة لا يجب تفويتها، بل يفترض توظيف علاقات باريس وتأثيرها ودورها من أجل ولوج التسوية اللبنانية النهائية التي تُعيد هندسة الواقع اللبناني بما يضمن مئوية جديدة مستقرة تنزع منها كل عناصر التفجير والتقلبات السياسية والتبدلات الديموغرافية.

فأيّ وجهة من الوجهتين هي الأدق؟