لم يكن اللبنانيون ينتظرون كلمة الرئيس الفرنسي ليدينوا الطبقة السياسية بفسادها وفشلها وأنانياتها، ولكن شهادة ماكرون على «خيانة» القيادات اللبنانية لتعهداتها وإلتزاماتها بتسهيل مهمات الإنقاذ والإصلاح والخروج بالبلد من النفق المظلم الذي أطبق على طموحات وأنفاس اللبنانيين، تعتبر إدانة دولية لمجموعة من الأحزاب إتخذت لبنان واللبنانيين رهينة، لمصالحها وإطماعها في الإستئثار بالسلطة ، والتفرد بمغانم النفوذ والصفقات والسمسرات، فضلاً عن تنفيذ أجندات خارجية.
لم ينقص الرئيس الفرنسي إلا أن يردد صرخات اللبنانيين في وجه السياسيين: فقرتونا..، نهبتونا..، دمّرتونا..، سرقتم أموالنا..، صادرتم حرياتنا..، قضيتم على مستقبل أولادنا..، وتلاعبتم بمصيرنا..، نحن نخجل بوجودكم ومن إرتكاباتكم.
قالها سيد الأليزيه بالفم الملآن، وأمام صحافة العالم: أنا أخجل عن السياسيين اللبنانيين!
كيف لا يُشارك اللبنانيين خجلهم وآلامهم من هذه المنظومة الحزبية والسياسية، التي مازالت تتنافس على المناصب، وتتطاحن على المكاسب، وتتلاعب بمقدسات الوطن ودستوره، فيما البلد في حالة إنهيار، بل في واقع إحتضار وتلاشي يشمل مختلف مقومات الدولة، والإنحدار النقدي والمعيشي يمضي بسرعة جنونية، وعدد الفقراء في لبنان إلى إزدياد يوماً بعد يوم.
لقد أعطى ماكرون الطبقة السياسية أوصافها الحقيقية، بكل صراحة، وبعيداً عن المسايرات الديبلوماسية، وحدد مواطن الخلل في المسار السياسي، ولم يتورع عن تسمية الأسماء علناً ومباشرة: حزب الله لا يستطيع أن يكون أقوى مما هو عليه ويفرض على اللبنانيين خياراتهم، والحريري أخطأ عندما أدخل عنصراً طائفياً في التشكيل الحكومي، وبالنهاية الجميع إرتكبوا فعل «الخيانة» لإلتزاماتهم في لقاءات قصر الصنوبر بدعم وتأييد المبادرة الفرنسية.
ومثل هذا الكلام المباشر من أعلى سلطة فرنسية يهدد بنزع آخر غطاء أوروبي عن الحزب، ويكشف عن إستعداد فرنسي بإعادة النظر بتقييم نشاطه السياسي.
تأكيد الرئيس الفرنسي بأن مبادرته مستمرة، وإصراره على مواصلة مساعيه لمساعدة الشعب اللبناني، يُبقيان شمعة الأمل مشتعلة في هذا الظلام الأسود، خاصة وأن المهلة الفرنسية الجديدة للسياسيين اللبنانيين لتشكيل الحكومة العتيدة قد إمتدت ستة أسابيع، بما يعني الأخذ بعين الإعتبار موعد الإنتخابات الأميركية في ٤ تشرين الثاني المقبل، وبالتالي إمكانية معرفة إتجاهات رياح المفاوضات المرتقبة بين واشنطن وطهران، وإنعكاساتها على ملفات المنطقة الساخنة، ومن ضمنها الوضع المتدهور في لبنان.
ولكن بين خجل ماكرون ووقاحة الطبقة الحاكمة، لا يبدو في الأفق ما يُشجع على الإعتقاد بإمكانية توافق الأحزاب اللبنانية على إنهاء الولادة الحكومية قبل الرابع من تشرين الثاني، مما سيزيد التوتر السياسي تفاقماً، ويُضاعف من أجواء التشنج والإحتقان في الشارع، خاصة بعد التباعد الحاصل بين الحريري والثنائي الشيعي من جهة، وعودة جمهور الإنتفاضة للتحرك في الساحات والشوارع من جهة ثانية.
وعلمتنا التجارب في لبنان، أن شعار: «إشتدي أزمة تنفرجي»، لا يتحقق إلا على صفيح ساخن، يأخذ أشكالاً مختلفة، ولكن معظمها يتسم بالعنف والمواجهات الدامية، التي غالباً ما تؤدي إلى تبريد الرؤوس الحامية، وإعادة أصحابها إلى جادة التعقل والحوار، أو إخراجها نهائياً من الساحة السياسية، ولو لفترة زمنية، وذلك على نحو ما حصل عشية إنعقاد مؤتمر الطائف أواخر ١٩٨٩ على صدى دوي مدافع حربي التحرير والإلغاء، وما أسفرت عنه من خروج العماد ميشال عون إلى فرنسا.
القراءة السياسية للتطورات المتسارعة تُبين أن البلد أصبح واقعاً بين شاقوفين: التناقضات والمواجهات الداخلية والتنافس المستمر على الحقائب الدسمة والكراسي المدعّمة بالمصالح والنفوذ، وبين الصراعات الإقليمية والدولية على ثروات بلدان المنطقة وخيراتها، والتي جعلت من الشعوب، المنهكة أصلاً من حكامها، مجرد حطب حريق في نيران الحروب والإضطرابات المتنقلة في الإقليم.
هل يستطيع الوضع اللبناني الصمود إلى ما بعد الإنتخابات الأميركية، وإنتهاء فترة السماح الفرنسية الجديدة؟
من الصعوبة الحديث عن إمكانيات الصمود والبقاء في وضع مقبول ومعقول، في ظل حكومة تصريف الأعمال أوصلت البلد إلى هاوية الإفلاس عندما كانت تتمتع بكامل صلاحياتها الدستورية، وتحظى بفترة سماح إمتدت أشهراً إضافية بسبب جائحة الكورونا، فكانت أولى قراراتها عدم تسديد قيمة سندات اليوروبوند، وعزل لبنان عن المجتمع المالي الدولي!
يُضاف إلى ذلك، عدم إمكانية الحصول على مساعدات فورية أو سريعة، طالما فشل العهد الحالي في التخلص من وصمة الفساد، ولم يستطع تنفيذ الإصلاحات الموعودة في المؤتمرات الدولية، ولم يفلح في توليد حكومة يتمتع وزراؤها بالكفاءة والنزاهة، وقادرة على وضع وتنفيذ خطة إصلاحية شاملة، تستعيد على أساسها الثقة الخارجية.
لم يعد لدى المنظومة السياسية العاجزة ترف الوقت للمماطلة في خطوات إخراج البلاد والعباد من دوامة الأزمات والإنهيارات.
ولم تعد الأوضاع المتدهورة إلى أسفل القعر، تسمح بالمزيد من المماحكات والتراشق بالإتهامات، فالكل مسؤول ومشارك في المآسي التي تمسك بخناق الناس، والمركب يغرق بالجميع، دون تمييز بين حزب وآخر، أو بين طائفة وأخرى، أو حتى بين موالٍ ومعارض.
فهل يعي أهل الحل والربط خطورة الاوضاع المنهارة وتداعياتها المصيرية المدمرة على الجميع قبل فوات الأوان؟
أخجل من القول : أنني لست متفائلاً!