ما يَرْشح من الأقنية الديبلوماسية العليمة، أنّ الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون آتٍ إلى لبنان، هذه المرَّة، لرفع العتب، لا أكثر. فهو محبَط تماماً، وسيقول: لم أترك طريقة إلا وجرَّبتُها، لكنكم ترفضون إنقاذ أنفسكم. دَبِّروا راسكم… وإلّا فليكن الانهيار!
في الأيام الأخيرة، دخلت المبادرة الفرنسية مرحلة حرجة. فهل باريس هي التي أدخلت نفسها في هذا التعثُّر؟
البعض يعتقد ذلك، ويقول: «الفرنسيون راهنوا على أمرٍ يستحيل تحقيقه، وهو أنّ الإنقاذ يمكن أن يتحقق على يدِ القوى نفسها التي أوصلت البلد إلى الخراب».
ولكن، في المقابل، تدافع باريس عن نفسها وتسأل: «مِن أين نأتي بالطاقم الجديد، ليتولّى الإنقاذ في لبنان، ما دام الممسكون بالسلطة هم الأقوى ويحظون بدعم القوى الخارجية؟».
ويدافع الفرنسيون عن سياسة «تدوير الزوايا» التي اعتمدوها، ولو أظهرت فشلها، ويقولون: أيضاً، لم تنفع سياسة الضغط المطلق التي يتَّبعها الأميركيون لإضعاف نفوذ «حزب الله». فهي أدّت إلى ما يشبه الانهيار الشامل للمؤسسات والاقتصاد والمال، فيما «الحزب» استطاع تدعيم قوته داخل مناطقه ومؤسساته، ولم يتراجع نفوذه في السلطة. واليوم، يستحيل تشكيل حكومة من دون رضاه.
في أي حال، المطلعون يقولون إنّ من غير المجدي الدخول في سجالٍ حول الخيار الأفضل: هل هو الفرنسي المرن أو الأميركي المتشدّد؟ ففي الواقع، مبادرة ماكرون تمّ تنسيقها مع واشنطن، وتحظى بدعمٍ منها. والطرفان يلتقيان على الهدف: الإصلاح والشفافية والنأي بالنفس عن المحاور الخارجية. ولذلك، الأميركيون تركوا لماكرون أن «يجرِّب حظّه»، لعلّه يستطيع تحقيق هذا الهدف بطريقته، وبعد ذلك «يكون لكل حادث حديث».
بعد انتفاضة 17 تشرين الأول 2019، حاول الفرنسيون إنتاج حلول من خلال اللجنة الثلاثية الأميركية – البريطانية – الفرنسية، على مستوى المدراء في وزارات الخارجية. وتنقلت الاجتماعات بين عواصم الدول الثلاث.
آنذاك، شكا الأميركيون من ليونةٍ فرنسية زائدة في التعاطي مع «حزب الله». وحاول البريطانيون أن يأخذوا على عاتقهم إيجاد مخرجِ وسطي يُرضي الشريكين الفرنسي والأميركي. لكنهم فشلوا أيضاً، وانفرطت اللجنة، وانتصرت وجهة النظر الأميركية القائلة بممارسة الضغط إلى الحدّ الأقصى.
ولكن، استنتج الأميركيون أنّ حكومة الرئيس حسّان دياب هي نسخة أخرى من الحكومات التي يسيطر «حزب الله» على قرارها. وفي ذروة التعثّر، وقع انفجار المرفأ، فوجد الفرنسيون باباً جديداً ليفرضوا إيقاعهم على اللعبة، فنزل ماكرون على الأرض بكل رصيده، ولكنه لم ينجح هذه المرّة أيضاً في استيلاد التسوية، لا بنسخة مصطفى أديب ولا بنسخة سعد الحريري. وحتى مؤتمر الدعم الإنساني بقي محدود التأثير.
اليوم، يطلق ماكرون «الخرطوشة الأخيرة» من خلال المبادرة الأوروبية الشاملة. والكلفة هي دخول الألمان شريكاً مضارباً، بتشجيع أميركي، انطلاقاً من كون برلين أقرب إلى الموقف الأميركي في النظرة إلى «حزب الله» وتصنيفه.
ويعتقد كثيرون، أنّ زيارة ماكرون الآتية لبيروت، بين 21 و23 كانون الجاري، ستحمل تهديداً فرنسياً مبطناً بسحب اليد من لبنان، وبتركِهِ ليتدبّر بنفسه طريقة التعاطي مع المواجهة الطاحنة بين الولايات المتحدة وإيران.
ويشعر ماكرون بغضب شديد من القوى السياسية التي أضاعت فرصة ثمينة لاستفادة لبنان من الدعم الذي يعمل لتقديمه. ويعتقد أنّ استعادة هذه الفرصة قد لا تبقى متيسّرة حتى انقضاء النصف الأول من سنة 2021.
فحتى انتهاء عهد الرئيس دونالد ترامب، في 20 كانون الثاني المقبل، لا مجال لأي دورٍ توفيقي فرنسي في لبنان، لأنّ المواجهة بين واشنطن وطهران ستكون في الذروة، وسيكون لبنان جزءاً منها. وكذلك، عندما يتسلَّم الرئيس جو بايدن مقاليد الحكم، ستكون الطريق مقفلة أمام المبادرة الفرنسية في كل الحالات.
فإذا انطلقت المفاوضات مباشرة بين واشنطن وطهران، سينتفي دور الوسيط الفرنسي في لبنان. وإذا تمّ الاتفاق بينهما، فإنّهما لن يحتاجا إلى وساطة فرنسا. وأما إذا انفجرت المفاوضات بينهما، فلن يكون المناخ ملائماً لفرنسا كي تستكمل وساطتها. وهذه الاحتمالات هي التي ستفرض نفسها على مدى أشهر بعد تسلُّم بايدن زمام الأمور في البيت الأبيض.
ولكن، هل من مصلحة الفرنسيين أن يستسلموا ويسحبوا يدهم من رعاية التسوية في لبنان؟
براغماتياً، لبنان يشكّل لباريس منصّة آمنة وواثقة للمصالح، وليس لها أي موقع يضاهيه في الشرق الأوسط. ولذلك، هي تحرص على عدم التخلّي عنه في خضم نزاعها الشرس في البقعة المتوسطية، مع قوى إقليمية ودولية، حيث يَسيل اللُعاب أمام آلاف آلاف المليارات من دولارات الغاز والنفط، التي آن الأوان لإستخراجها من البحر. والفرنسيون حجزوا لشركاتهم حصةً في الكعكة اللبنانية.
ربما يسارع ذوو السلطة، بنحو ماكر، إلى تشكيل «حكومةٍ ما»، لعلّهم يُرضون ماكرون ويُبقون على الخيط الرفيع الذي يربطه بالأزمة اللبنانية. لكن المهزلة لن تنتهي هنا، لأنّ أي حكومة تولد اليوم ستكون نسخة أخرى عن حكومة دياب وما سبقها من حكومات الفشل. ولذلك، يبدو البلد سائراً بكل ثقةٍ نحو الخراب.