ما من شك في أنّ الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون قرّر الظهور في مؤتمره الصحافي الأخير لتوجيه رسائل عدة ابرزها، انّ زيارته الثالثة للبنان اصبحت حتمية، وانّ تحديد موعدها ينتظر اكتمال الشروط المطلوبة لجعلها زيارة ناجحة، ولتقدّم للبنانيين حكومة تتضمن الحدّ الأدنى المطلوب لإعادة إنقاذ البلد.
وحين عقد ماكرون مؤتمره الصحافي في تشرين الاول الماضي، والذي تضمن ما يشبه الإقرار الضمني بإجهاض المبادرة التي تقدّم بها لإنقاذ لبنان، كان يقرّ ضمناً بخطأ عدم إيلاء الجانب الاقليمي المتداخل بالساحة اللبنانية الأهمية المطلوبة. ومن هذه الزاوية يُفهم إلقاء لومه يومها على “حزب الله”.
لكن ماكرون كان يخطّط يومها لمرحلة وجيزة من الإنكفاء، تسمح له بإعادة تأمين الجوانب التي شكّلت “عيوب” نجاح مبادرته.
والانتخابات الاميركية التي انتظرها الجميع، أخذت وقتاً لا بأس به قبل حسمها كلياً. لكن، ومع اتضاح صورة نتائجها شيئاً فشيئاً، والاتجاه لدخول جو بايدن الى البيت الابيض، فإنّ اوروبا ومعها عاصمتها السياسية، أي فرنسا، بدت متفائلة بعهد جديد من التعاون الاميركي ـ الاوروبي، بعد سنوات اربع من النزاعات وادارة ظهر دونالد ترامب للقارة العجوز.
وخلال الفترة الانتقالية، زار انطوني بلينكن باريس التي يعرفها جيداً، بعيداً من الاضواء، كونه لم يكن قد تولّى رسمياً موقع وزير الخارجية، والتقى بعض المسؤولين الفرنسيين. وقيل إنّه اكّد سياسة بايدن الانفتاح على اوروبا والتعاون معها على المسرح الدولي، وخصوصاً في الشرق الاوسط.
ومع تسلّم بايدن مهماته رسمياً بعد أحداث داخلية صاخبة، بادر الرئيس الفرنسي الى اتصال طويل بنظيره الاميركي، مستعرضاً كافة الملفات الاساسية. والدوائر الفرنسية تحدثت في بيانها عن بعض الملفات التي تمّت مناقشتها، بما فيها الملف اللبناني. فيما لم يذكر ذلك البيان الموقف الاميركي. وردّت اوساط ديبلوماسية السبب، الى انّ ماكرون هو من بادر وطرح الموضوع اللبناني على بايدن، فيما الاخير في حاجة لبعض الوقت قبل رسم الصورة بدقّة. ذلك أنّ اكتمال التعيينات في الادارة الاميركية سيحتاج الى فترة قد تصل الى منتصف شباط المقبل، على أن تباشر بعدها الدوائر الاميركية المختصة في رسم السياسة المطلوبة.
صحيح أنّ ادارة بايدن ستمنح فرنسا ضوءاً اخضر واضحاً وضوح الشمس، لكن هنالك مبدأ التفاهم حول “الكادر” الذي ستتولّى باريس العمل من ضمنه في لبنان.
في هذا الوقت، باشر ماكرون حركته عبر مستويين، الاول بعيد من الاضواء، ومن خلال القنوات الديبلوماسية، في اتجاه كل من ايران و”حزب الله” من جهة، والسعودية من جهة أخرى. وقيل انّ التواصل مع قيادة “الحزب” في لبنان تمّ تفعيله مجدداً بواسطة السفارة الفرنسية في بيروت.
والمستوى الثاني، مباشر، وهو ما تُرجم باتصال ماكرون بالرئيس ميشال عون، على ان تلي ذلك اتصالات اخرى بمسؤولين آخرين.
ويمكن ادراج المؤتمر الصحافي لماكرون في هذا الاطار ايضاً، حيث قال انّه اتخذ قراره بزيارة لبنان، ولكن الزيارة الثالثة يجب ان تثمر “حكومة مهمّة” برنامجها واضح، وأنّه يعمل حالياً على التحضير جيداً لإنجاح زيارته، قبل ان يعمد الى تحديد الموعد. وقال ايضاً إنّه يدرك أنّه لا بدّ من بعض التعديلات على المواصفات التي كان وضعها. وتدور في الاوساط الديبلوماسية معلومات حول موافقته على حكومة من 20 وزيراً بدل حكومة الـ 18، بناء لطلب “حزب الله” غالب الظن. لكن ذلك لن يعني ابداً التعديل في جوهر مبادرة ماكرون، أي أنّ اي طرف سياسي لن ينال الثلث المعطّل، خصوصاً وانّ الوزراء يجب أن لا يكونوا اداة في يد القوى السياسية، حتى ولو جاءت تسميتهم من خلال هذه القوى.
ويروي البعض، أنّ باريس المستاءة من طرفي النزاع، اي من الرئيس سعد الحريري ومن “التيار الوطني الحر” على حد سواء، لم تكن راضية على ما وصلها من بعض الاسماء المقترحة من جانبي الحريري وجبران باسيل. فالمطلوب وزراء مشهود لهم بالمناقبية وبالقدرة على اتخاذ القرار والشروع في الاصلاحات، من دون العودة الى هذا المسؤول او ذاك، اي وزير يعمل بمهنية وحرفية وليس ابداً واجهة لمصالح هذا او ذاك.
وبالتأكيد، سيكون “حزب الله” مشاركاً في الحكومة ولو بطريقة غير مباشرة، تماماً كما غيره من القوى والاحزاب السياسية. أي من خلال استنساخ جديد لتجربتي جميل جبق وحمد حسن، والأهم أنّ أحد أبرز مهمات هذه الحكومة، إضافة الى قيامها بالإصلاحات الموعودة، التحضير لانتقال سياسي سلمي في اتجاه بناء مفهوم سياسي جديد في السلطة. وهذه الحكومة يجب ان تحضّر لانتخابات نيابية جديدة من المفترض ان تعزّز حضوراً سياسياً جديداً، على رغم المأخذ الفرنسي على فشل الشارع اللبناني في انتاج وجوه جديدة.
في هذا الوقت، إنفجر الوضع في مدينة طرابلس. صحيح انّ المراقبين على مختلف انتماءاتهم وتوجّهاتهم كانوا يتوقعون انحداراً مأسوياً للواقع اللبناني، بسبب الانحدار السريع الحاصل اقتصادياً ومعيشياً، لكن ما حصل في عاصمة الشمال، حيث الثقل الشعبي للطائفة السنّية، والتي تختزن كثيراً من خطوط التداخل المحلي والاقليمي، جعل من المنطقي طرح التساؤلات حول ما اذا كانت هنالك رسائل موجّهة الى فرنسا، التي اعادت تشغيل محركاتها. وعلى سبيل المثال، ما اذا كانت هنالك رسائل من تركيا، او حتى من ايران، من خلال مجموعات محدّدة.
الإنطباع الاول الذي كوّنته باريس، بأنّ ما حصل انما هو محصور في اطار اللعبة الداخلية اللبنانية والطرابلسية، وانّ لا رسائل اقليمية محدّدة، لكن لا بدّ من انتظار انتهاء التحقيقات الجارية. خصوصاً بعدما تكشّف أنّ الذين توجهوا إلى دار البلدية لإحراقها حرّكهم شخص ينتمي الى المنتديات التي هي بإمرة نبيل الحلبي، وهو، أي الذي حرّكهم، دفع أموالاً، ما يستوجب انتظار انتهاء التحقيق للتأكّد مما إذا كانت هنالك فعلاً رسالة موجّهة لفرنسا أم لا.
في الواقع، بدا أنّ هنالك توجّهاً دولياً جديداً تؤيّده باريس، يقضي بإقناع ادارة بايدن بخطورة الاستمرار في سياسة خنق “حزب الله”، ولو ادّى ذلك الى اختناق الدولة اللبنانية وانهيارها. ذلك أنّ فشل الدولة اللبنانية سيؤدي الى نتائج كارثية، ليس فقط على المستوى اللبناني الداخلي، بل ايضاً على مستوى المنطقة. ويتفق الجميع على ضرورة الإستمرار في سياسة دعم الجيش اللبناني، والذي شكّل المؤسسة الوحيدة الناجحة في لبنان، ما جعلها تحظى بدعم واحترام مختلف الاطراف الداخلية والخارجية. وفي هذا الاطار، ستعمد واشنطن قريباً الى منح الجيش اللبناني 3 مروحيات، لضمّها الى سلاح الجو، كذلك سيجري العمل على توسيع دائرة المساعدات العسكرية.
الغالب انّ العواصم الغربية، وفي اطار سياستها الجديدة تجاه لبنان، ستعمد الى وضع خطة للتخفيف من وطأة الفقر الذي أصبح يطاول اكثر من 55% من اللبنانيين، شرط ان يحصل ذلك بعد انجاز برنامج الاصلاحات المطلوب. فالفساد الذي نخر الدولة، وكان عماد ذهنية الطبقة السياسية الحاكمة، لا بدّ من ان يتوقف.
وهذا ما يفسّر كلام الرئيس الفرنسي ايضاً، عندما تحدث صراحة عن “الحلف الشيطاني بين الفساد والترهيب”. وهي المعادلة التي تشكّل فلسفة حكم الطبقة السياسية. ولذلك ايضاً، تركّز باريس، كما واشنطن، على حقيبة وزارة العدل، التي يجب ان تكون في خدمة القانون لا في خدمة المصالح السياسية كما كان يحصل دائماً.
عندما قال ماكرون ان ليس لدى اللبنانيين قادة يستحقونهم، خجل بعض اللبنانيين نيابة عن المسؤولين الذين اعتبروا انّ “الدنيا عم تشتي”، حسب المقولة الشعبية بالعامية. قبله قال وزير الخارجية الفرنسية جان ايف لو دريان “انّ الطبقة السياسية اللبنانية مبعث للإحتقار”. لكن اطراف هذه الطبقة لم تهتم لهذا التقريع، واندفعت مجدداً في لعبة المحاصصة وكأن شيئاً لم يكن.
طبقة فاسدة ومن دون كرامة ايضاً.