لا يمكن إنكار أن فرنسا أكثر دولة لديها حنين وعاطفة على لبنان نتيجة العلاقات التاريخية مع الموارنة وإعتبارها الراعي للبنان الكبير الذي تأسس نتيجة مساعيها وفوزها مع البريطانيين والحلفاء بالحرب العالمية الأولى.
كان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون أول رئيس غربي سارع للطيران إلى بيروت بعد انفجار المرفأ وتفقّد المنطقة المدمّرة وفعّل إتصالاته من أجل مدّ يد العون إلى الشعب اللبناني.
أكثر من تسعة أشهر مرّت على إنفجار المرفأ في 4 آب من العام الماضي، والجميع يتذكّر أن رؤية اللبنانيين لعاصمتهم مدمّرة وسقوط الضحايا بالمئات والجرحى بالآلاف جعلتهم يكرهون الطبقة السياسية الحاكمة، ونزل عشرات الآلاف إلى ساحة الشهداء يوم السبت الذي تلا الإنفجار مطالبين باسقاط الحكومة ومجلس النواب وكل السلطة السياسية، يومها لم تجرؤ هذه السلطة على الخروج من منازلها ومقراتها بسبب الخوف من الغضب الشعبي العارم.
لكن ما حصل أن الشعب الذي تدمّرت عاصمته وأهم مرفأ لديه لم يكن لديه ما يخسره في تلك المرحلة وكان مصمماً على إسقاط كل الطبقة الحاكمة، لكن زيارة ماكرون واجتماعه بالقادة السياسيين في قصر الصنوبر أعادا بث الروح في شرايينها، فـ”حزب الله” المطوّق عربياً ودولياً وجدها فرصة لإعادة فرض شروطه، ورئيس الجمهورية العماد ميشال عون الذي يُغطّي دويلة “الحزب” قالها بصريح العبارة بأن هذا الحدث الأليم قد يشكّل نافذة لفكّ الحصار، وبالتالي إستفادت الطبقة الحاكمة من مبادرة ماكرون من دون أن تطبّقها ومن دون أن يستفيد الشعب اللبناني ولا حتى ماكرون بذاته.
اليوم، وصل ماكرون إلى حائط مسدود، ولعلّ أول من نصحه بأن كل جهوده مع هذه الأكثرية الحاكمة لن توصل إلى مكان هو رئيس حزب “القوات اللبنانية” الدكتور سمير جعجع والذي لم يستجب لمطلبه بترشيح السفير مصطفى أديب، وبالتالي فان الأساس يبقى أن الفرنسي فشل بينما الطبقة السياسية لا تزال مستمرّة بممارساتها التي تُسرّع الإنهيار.
وترى مصادر ديبلوماسية أن فشل ماكرون ينقسم إلى شقين: الشقّ الأول يتعلّق بتصديقه وعود الطبقة السياسية وعدم معرفته جيداً لمكرها وبأنها مرتبطة بحسابات خارجية وخصوصاً “حزب الله” الذي يُطبّق سياسة إيران في لبنان والمنطقة وغير مبال بهدر الفرص التي تنقذ البلد.
أما بالنسبة إلى الشق الخارجي، فتلفت المصادر إلى ان ماكرون أيضاً من خلال إعطائه فرصة جديدة للأكثرية الحاكمة وعلى رأسها “حزب الله” لم ينل رضى الأميركي، فواشنطن لديها نظرية بأن هذه الطبقة اللبنانية فاسدة ويجب إنهاؤها ولا يجب إعطاؤها أي فرصة، فعمل ماكرون ضدّ إرادة الأميركي “فاصطدم بالحيط”.
وفي المحصلة، تؤكّد المصادر أن ماكرون لم يستمع جيداً لصوت الشعب الرافض لهذه الطبقة السياسية على رغم أنها منتخبة منه، ولم يقرأ الموقفين الأميركي والسعودي جيداً وبأنهما لا يريدان تعويم حكومة يسيطر عليها “حزب الله” ومغطاة من عون، وبالتالي فان كل جهوده ذهبت سدى.
وفي السياق، فان المبادرة في شقها الإصلاحي جيدة جداً، لكن في الشقّ السياسي كانت فاشلة، ولو راجع ماكرون سياسات أجداده الفرنسيين لاكتشف أن هذا البلد لا يُدار إلا بالسياسة، في حين أن المشكلة الإقتصادية لم تحصل إلا نتيجة الهزّات السياسية والأمنية، والفوضى الإقتصادية هي التي كانت تساعد على بقاء البلاد صامدة وليس العكس.
وامام كل هذه العوامل، فان الشعب اللبناني هو الخاسر الأكبر من فشل المبادرة الفرنسية على رغم أن ماكرون قد يدفع ثمنها في الداخل الفرنسي لأنه لم يُقدّر مدى “السمّ” الذي تبثه هذه الطبقة السياسية والتي لدغت الشعب اللبناني ولدغته هو أيضاً