العين على تحرير عمل الحكومة وضبط الحدود ووقف ترهيب القضاء
ما جرى في المملكة العربية السعودية قبل يومين، خلال لقاء ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان مع الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، في شقّه اللبناني، مهم للغاية. ليس ثقة بماكرون ومبادراته اللبنانية التي جرّبها اللبنانيون منذ 2019 وفشلت، بل لاعتبارات أخرى تتصل بحاجة لبنان الماسّة لصوت مؤثر عربياً ودولياً، كالسعودية، لإعادة تسليط الضوء على المعضلة اللبنانية التي استعصت على الحلّ، وخلاصتها أن هذا البلد مخطوف، وليذكّر تالياً بالدستور والطائف، والإصلاح، وحصر السلاح بالشرعية وتعزيز دور الجيش، واحترام سيادة البلد ووحدته بما يتوافق مع القرارات الدولية، وخصوصاً (1559)، و(1701)، و(1680) وغيرها.
حمل ماكرون الملف اللبناني إلى دول الخليج التي زارها، وكانت الأنظار تتجه إلى لقائه بولي العهد السعودي، ببساطة لأن «جزءًا كبيراً من مستقبل المنطقة يُرسم في السعودية»، بحسب الرئيس الفرنسي. أما القرقعة الداخلية التي سَعت للتسلّق على الحدَث فتفصيل بسيط ولا أهمية له أبداً، كاستعراض القرداحي السمج جداً، وبالتالي لا حاجة للتعليق عليه. الحقيقةُ التي لا تقبل الشكّ أن كل كلامٍ مبتذل عن السيادة والكرامة إنما كان لزوم الاستعراض، وأن المشكلة الأساسية هي في السلاح خارج الدولة الذي يحمي الفساد والفاسدين، ويرهب القضاء، ويرهن لبنان ومصالحه الوطنية في أجندات إقليمية مشبوهة.
«كانت الأنظار تتجه إلى لقاء جدّة، ببساطة لأن «جزءًا كبيراً من مستقبل المنطقة يُرسم في السعودية»، بحسب الرئيس الفرنسي. أما القرقعة الداخلية التي سَعت للتسلّق على الحَدَث فتفصيل بسيط ولا أهمية له أبداً»
لمصلحة لبنان لا العكس
البيان السعودي – الفرنسي المشترك الصادر في أعقاب لقاء جدّة، وصّف الخطوات اللبنانية المنتظرة بدقّة معبّرة لأنها تعكس حقيقة الأزمة في لبنان، وهي الأزمة التي لا تريد القوى الدولية رؤيتها على حقيقتها، فالجانبان شددا على «ضرورة قيام الحكومة اللبنانية بإجراء إصلاحات شاملة، لا سيما الالتزام باتفاق الطائف المؤتمن على الوحدة الوطنية والسلم الأهلي في لبنان، وأن تشمل الإصلاحات قطاعات المالية والطاقة ومكافحة الفساد ومراقبة الحدود»، واتفق الطرفان على «العمل مع لبنان لضمان تطبيق هذه التدابير». وأكدا «ضرورة حصر السلاح بمؤسسات الدولة الشرعية، وألا يكون لبنان منطلقاً لأي أعمال إرهابية تزعزع أمن واستقرار المنطقة، ومصدراً لتجارة المخدرات»، كما شددا على «أهمية تعزيز دور الجيش اللبناني في الحفاظ على أمن واستقرار لبنان»، واتفقا على «استمرار التشاور بين البلدين في جميع تلك القضايا، وعلى إنشاء آلية سعودية – فرنسية للمساعدة الإنسانية في إطار يكفل الشفافية التامة، وعزمهما على إيجاد الآليات المناسبة بالتعاون مع الدول الصديقة والحليفة للتخفيف من معاناة الشعب اللبناني»، وأكدا «أهمية الحفاظ على استقرار لبنان واحترام سيادته ووحدته بما يتوافق مع قرارات مجلس الأمن والقرارات الدولية ذات الصلة»، وفوق البيان جاء اتصال ماكرون وبن سلمان بالرئيس نجيب ميقاتي ليعطي إشارة على جديّة أن البيان ليس لضرورات البروتوكول، بل خارطة طريق لعودة الخليج إلى لبنان، والإسهام في انتشاله من أزماته.
على أن الفيصل في كل ذلك، برأي متابعين، هو أن نقطة الارتكاز مرهونة بالاستجابة اللبنانية لهذه المبادرة، وتلقفها والتفاعل معها إيجاباً من خلال الالتزام بها، خصوصاً وأن كل بنودها هي في صالح الشعب اللبناني والدولة اللبنانية، وذلك من خلال جملة خطوات يفترض أن تكون سريعة وعاجلة، مثل: عودة مجلس الوزراء إلى الانعقاد، والانصراف لمتابعة شؤون بلدٍ هو في الحضيض، حرفياً، وليس مجازياً، وعلى كل الأصعدة أيضاً، ومن ثمّ عدم التعرض للقاضي بيطار، أو بالحدّ الأدنى لموجبات العدالة في تفجير مرفأ بيروت، وصولاً إلى بقية البنود التي أشار إليها البيان كضبط الحدود والإصلاح واحترام القرارات الدولية.
هل تنتصر المصلحة الوطنية؟
وفي وقت يستبعد كثيرون قدرة الحكومة على الالتزام بما أشار إليها البيان، وهي المعطلة بقرار كيدي وميليشياوي، يرى آخرون أن عدم استغلال لبنان لهذه الفرصة سيعني مزيداً من الانهيار، لكن، هذه المرّة، بقرار لبناني داخلي، وهذا لا يشمل القطيعة السياسية والديبلوماسية والاقتصادية، بل حتى الإنسانيّة، خصوصاً وأن البحث تطرّق إلى تنسيق الجهود للتخفيف من معاناة الشعب اللبناني، لكن ليس مع هذه المنظومة، وهو ما تنبّه إليه طرفا لقاء جدّة إذ أشارا إلى «إنشاء آلية سعودية – فرنسية للمساعدة الإنسانية في إطار يكفل الشفافية التامة»، وفي ذلك أبلغ دليل على مستوى ثقة المجتمعين الدولي والعربي بالسلطة اللبنانية، والمنظومة الراعية لها.
تبقى مسألة الانتخابات النيابية التي لم يشر إليها البيان، لكنها استحقاق مهم، ومهمٌ أيضاً أن يدرك المجتمعان الدولي والعربي أن مقاربتهما له ما تزال قاصرة، خصوصاً لناحية التمسك بإجراء الانتخابات، من دون الالتفات إلى تفاصيل قد تكون أكثر أهمية ومحورية، كشكل القانون الذي ستجرى على أساسه، وضمان عدم الترهيب، والتزام حيادية السلطة وغيرها من قضايا.
هل ستحصل الانتخابات والبلد في حالة انهيار اجتماعي واقتصادي ومالي، واضطراب وانكشاف أمني مقلق ومخيف، وخلاف وصراع سياسي؟ السؤال له ما يبرره، وكل ما ذكر يؤدي إلى حقيقة أن السلطة تسعى إلى تطيير الاستحقاق بصرف النظر عن لعبة متى سيُجرى، في آذار أو أيار! وإذا كان الخارج متمسكاً بإجراء الانتخابات كسبيل ديموقراطي للتغيير وإعادة تطوين السلطة على أسس شرعية، لكن في جعبة المنظومة ألف سبب للتعطيل، وألف سيناريو لتنفيذ رغبتها، كالفوضى الأمنية (وهو ما لوّح به أحد الأحزاب، وما حصل فعلاً في انتخابات نقابة أطباء الاسنان)، ولعبة الشارع، ولعبة المعوقات اللوجستية، وإذا لم يفلح كل ذلك، فسلاح كورونا جاهز للاستخدام.
الغضبُ الخليجي مبرّر، لكن بناء المستقبل يتطلب شجاعة المبادرة، وفتح الأبواب، والمهم في ما يجري أن حقيقة الأزمة اللبنانية باتت، بفضل الأشقاء والحريصين على لبنان ودوره ورسالته، واضحة حيث المليشيا التي تختطف الدولة، وطبقة سياسية تحترفُ الكذب والتضليل، وكِلا الطرفين باتا ينتميان لزمن آخر، فيما غالبية اللبنانيين يعتبرون معركة تحرير بلدهم قضية انتماء ومصير.. وهم متمسكون بربحها.