IMLebanon

مـاكـرون والمنظـومـة السلطوية والـثورة.. مَن يَسـبق مَن؟

 

ما بين عصا العقوبات وجزرة الإصلاحات.. العبرةُ بخواتيم التشكيل

 

تمرّ الأوقات ثقيلة، مشحونة بالحزن والغصّة والقلق والغموض، على لبنان. هكذا تبدو بيروت، منهكة، متعبة ومصابة بانتظار العدالة التي لن تأتي أبداً على يدّ من استباحها وتواطأ عليها وعلى ناسها واقتصادها وسحرها وهدوئها وتراثها ومرفئها وعيشها.

 

مائة عام على إعلان قيام دولة لبنان الكبير 1920، وشهرٌ وثلاثة أيام على كارثة انفجار بيروت الذي لم تُصدر السلطة حتى الآن بياناً رسمياً بشأنه يحدد ما الذي حصل بالضبط، وسبعة أيامٍ على مهلة الأسبوعين التي حدّدها الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون لتشكيل الحكومة العتيدة.

 

تتعدد الوقائع والتواريخ والمبادرات، ولا مؤشرات، حتى الساعة، لانفراج قريب بل مزيد من الإرباك والغموض والانتظار. بعد تاريخ 4 آب التراجيدي، انشغل الداخل أولاً بتداعيات كارثة بيروت الإنسانية والإقتصادية والإجتماعية والحياتية والسياسية والقانونية، وسرعان ما ازدحم المشهد من صدور حكم المحكمة الخاصة بلبنان، إلى عودة الاهتمام العربي والدولي بلبنان من باب المساعدات الإنسانية، واستقالة حكومة حسان دياب، الحدث الأقلّ شأناً وضجّة، وتكليف مصطفى أديب تشكيل الحكومة العتيدة، فتزاحم الموفدين الدوليين، المبادرة الفرنسية والتريّث الأميركي والفراغ العربي ولفتة فاتيكانية، واستمرار تصاعد مواقف البطريرك الراعي تجاه المنظومة السلطوية وفق ثلاثية تحرير الشرعية، الحياد، التزام وتطبيق القرارات الدولية، بموازاة حيرة ومَيعان على خطّ الثورة مع تقدّم الهمّ الاجتماعي والحياتي والمعيشي والمالي على ما سواه، وتراجع الضغط باتجاه إسقاط منظومة الحكم.. وسط كل ذلك بدت احتفالية المئوية الأولى خارج السياق لولا زيارة الرئيس ماكرون وما سبقها ورافقها من مواقف ولقاءات.

 

ثمة من يرى أن الرئيس الفرنسي جاء إلى لبنان حاملاً مبادرةً مليئةً بالأشواك لأنها تستبطنُ تسوية إيرانية – أميركية بأيادٍ فرنسية، فوزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو قال إنّ هناك تنسيقاً كاملاً مع فرنسا في لبنان في هذه الفترة، ووكيل الخارجية الأميركية دايفيد شنكر قال خلال زيارته بيروت إنه يطالب المسؤولين بالإصلاحات التي طالب بها الرئيس الفرنسي، وأنه جاء لبحث قضية ترسيم الحدود البحرية بين لبنان وإسرائيل!

 

يرى أصحاب هذا الرأي أن مبادرة ماكرون – إلى كونها تحصل على دماء وأشلاء وأوجاع اللبنانيين – تتضمن تعويم منظومة السلطة المأزومة (وخصوصاً حزب الله ورئيس الجمهورية وصهره النابغة في لحظة ضعف الأخيرَين وتعاظم فشلهما) بدل إدانتها، في مقابل دفعها لإجراء إصلاحات ضرورية سبق أن وعدت هذه السلطة بإجرائها عشرات المرات، لكي يتمكن من مساعدة لبنان مالياً واقتصادياً.

 

وهناك من يرى أن انفجار بيروت كان مناسبة لعودة الفرنسيين إلى لبنان، لكن السبب الحقيقي وراء اهتمامهم هو التحركات التركية في شرق المتوسط، وتجديد الحضور في المنطقة إلى جانب الحضور الأميركي والروسي والصيني، كما ذهبت بعض الصحف الفرنسية. فهل تريد فرنسا منع انهيار لبنان أم استعادة مواقع تأثيرها في المشرق؟

 

في كل الأحوال، كان من نتائج زيارتي ماكرون للبنان تعريةُ المنظومة المتسلّطة في فسادها وكذبها واستهتارها وتفريطها بأمن وسلامة الشعب، وهي وإن كانت تدخّلاً دولياً، ولو ناقصاً، لكنها ساهمت في لجم فجور الطبقة الحاكمة، وتلاعبها بمصائر الشعب ومصالحه وصولاً إلى التواطؤ على إبادته. وفوق ذلك لقد وضعت المبادرة الفرنسية حدّاً لتجاوز الدستور والأعراف من قبل الرئيس ميشال عون، ولجوع صهره للانتهاب والتضليل والتذاكي ووضع العصي أمام مساعي الإصلاح وعرقلة تنفيذ القرارات الدولية. وإن كان يؤخذ عليها أنها لم تتعرض، أقلّه إلى الآن، لمسائل أساسية، كالسلاح والحياد والتدخل الخارجي، الإيراني تحديداً بلبنان، بوصفها أسباباً رئيسية للأزمة والعزلة والإفلاس والانهيار.

 

المهم هنا أن الرئيس الفرنسي الذي انتزع تعهدات من أحزاب السلطة بإنجاز برنامج إصلاحي خلال ثلاثة أشهر وإلا فمقصلة العقوبات حاضرة، وأنه سيعود للمرة الثالثة لكي يرى ما تحقق منها! فرض نفسه بقوة على المشهد اللبناني، وألزم الجميع بسماع كلمته.. لكن السؤال هل السبب في كلّ ذلك حبّ هذه الأطراف لماكرون أو ضغط كارثة بيروت والانهيار الاقتصادي والمالي، وتضخّم مؤشرات الفقر والجوع، والحاجة لمساعدة المجتمع الدولي وصندوق النقد لإعادة الإعمار ووقف الانهيار؟!

 

بالتوازي، جاءت زيارة موفد البابا فرنسيس، أمين سر دولة الفاتيكان الكاردينال بييترو بارولين لبيروت، لتؤكد أن الكرسي الرسولي يدرك جيداً حقيقة الأوضاع في لبنان، وبالتالي فإن هذه الزيارة ليست للاستطلاع فقط، بل لما هو أكبر وأعمق لناحية صون لبنان المهدد في رسالته ودوره ووجوده.

 

باريس وعواصم العالم ليست منظمات مجتمع مدني، هي دولٌ ولها مصالح وحسابات واستراتيجيات، وجميع هؤلاء يعلمون استحالة الإصلاح مع المنظومة المتحكّمة بالسلطة في لبنان، لأنها، ببساطة، متورّطة حتى النخاع في الفساد والانتهاب والسرقة والسمسرات ودوس القانون وتجاوز الدستور، وتدرك أكثر استحالة التعايش مع السلاح والحدود المفتوحة ومعاداة العرب والعالم. من المنطقي جداً القول إن هناك صعوبة في توقع نجاح معظم أيّ مبادرة لكسر الجمود، لاستعصاء المنظومة على الإصلاح أو الإقلاع عن ممارسة الفساد الذي هو في صميم مقاربتهم للشأن العام. فهذه المنظومة لم تقبل، شكلياً، مبادرة ماكرون إلا بعد تلويحه بعصا العقوبات على المسؤولين وأصهرتهم وبناتهم وحواشيهم المتورطون بالفساد. لكن في المقابل لا مناص من الاعتراف بأن جزءاً وازناً من كسر حلقة الجمود هو داخلي بامتياز، فاستمرار وضع خطوط حمر على المواقع الدستورية لحمايتها من غضب الناس، والتعويل على صحوة ضمير المسؤولين أمرٌ مضرّ، وعدم تجديد الثورة لديناميات تحركاتها وخططها وبرامجها أمرٌ مضرّ أيضاً، تماماً كالاكتفاء بانتظار نتائج الانتخابات الأميركية للبناء عليها سلباً أم إيجاباً.

 

من يصدق الأدبيات التي تكاثرت مؤخراً في مديح الدولة المدنية، ومن لا يدرك أن هدفها إعلان التبرّم بالطائف والدستور، وأنها فوق ذلك تستهدف مواقف البطريرك الراعي وتستدرج اشتباكاً مع ثلاثيته الآنفة الذكر والتي دعمها أمس في عظته بدعوة الرئيس المكلف «لتأليف حكومة طوارئ مصغرة لا ألغام فيها تعطّل عملها وقراراتها».

 

هل يُشكّل الرئيس أديب حكومة مستقلين اختصاصيين مع برنامج عمل إنقاذي قبل 14 آب وتباشر الإصلاحات، أم تمارسُ المنظومة عادتها القديمة في التعطيل؟ أغلبُ الظن.. أغلب الظن أن المسعى الفرنسي سيتعرض للتفخيخ على يد من اعتادوا تفخيخ كل شيء كرمى لمصالحهم، مهما كانت الآثار والتداعيات كارثية. الحركة كثيرة، والكلام أكثر، وما بين ماكرون و«الماكرون» تبقى العبرة دائماً في التنفيذ.