لم يكن معظم اللبنانيين ينتظرون التوصيف الذي قدّمه الرئيس الفرنسي للوضع في لبنان، ولا تفسيره للادوار التي لعبها القادة، بعدما تباهى البعض بقدراتهم الخارقة. فما كان ينقصهم ان يتجرأ احدهم على تلاوة مثل هذه الأحكام، في حق من اوصلوا البلاد الى ما نحن فيه. وعليه، لم يكن صعباً شرح الأسباب التي عطّلت ولادة «حكومة المتصرفية» التي يحتاجها لبنان. فكيف ولماذا؟
كان واضحاً انّ الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون قد بالغ في رهانه على مجمل التعهدات والوعود اللبنانية التي نالها من القيادات السياسية والحزبية ورؤساء الكتل النيابية، التي جمعها حول الطاولة المستديرة في قصر الصنوبر، محترماً كل المعايير البروتوكولية في توزيع مقاعدهم عصر الثاني من ايلول. كان يعتقد انّ مواقفه المتوازنة من مختلف الاطراف التي اطلقها من بيروت، وما عقده من خلوات جانبية مع البعض منهم، كافية لعبور حقل الألغام بنجاح، وتحاشي ارتكاب اي خطأ في حق اي من القوى الداخلية ورعاتهم الاقليميين، المتربصين تارة بالساحة اللبنانية وتارة أخرى بالمبادرة الفرنسية، على خلفية النزاع القائم بين المحاورالكبرى التي تتحكّم بمجريات الاحداث في المنطقة.
على هذه الأسس، انطلقت المبادرة الفرنسية، وجنّد لها ماكرون طاقمه السياسي والديبلوماسي المتمرس بالملفات الاقليمية التي تؤثر في مجرى الاحداث اللبنانية، وتحديداً ما بين طهران والرياض وواشنطن وموسكو وغيرها من العواصم، بالإضافة الى مجموعة اللجان المالية والنقدية والادارية، وتلك التي ترعى تنفيذ مقررات مؤتمر «سيدر»، للإحاطة بالملفات المطروحة في اكثر من قطاع، الى ان تشابكت الأمور وتعقّدت مجدداً، بعد اعلان الولايات المتحدة الأميركية دفعتها الجديدة من العقوبات، التي طاولت اقرب المقرّبين الى حليفي «حزب الله» شريكه في الثنائي الشيعي رئيس حركة «امل» ورئيس تيار «المردة».
وعلى رغم من الاتفاق الذي اعقب الاعلان عن العقوبات، للحؤول دون اي تردّدات سلبية لها على عملية التشكيل، والذي شكّل انجازًا للديبلوماسية الفرنسية، بعدما نالت موافقة المعنيين بها وبنتائجها، لعزل الإنعكاسات السلبية المحتملة على خريطة الطريق الفرنسية كاملة. وكان الجانب الفرنسي، ومعه كثر، على إقتناع تام بأنّ ما سبق أن سلّفه ماكرون للثنائي الشيعي، ولـ»حزب الله» تحديداً، كان يجب ان يوفّر الحماية لخطة العزل. لكن حسابات الارض لم تظهر على بيدر المتابعة، فانفجرت أزمة حقيبة وزارة المال، ومعها تفرّد الثنائي الشيعي بتسمية وزرائه الثلاثة، إن بقي العرض قائماً في حكومة من 14 وزيراً.
وبمعزل عن كل ما حصل، فقد كانت النتائج واضحة، بعدما تبين انّ ما قدّمه ماكرون وخصّ به الثنائي الشيعي، قد تبخّر بين ليلة وضحاها. فوقوف ماكرون متصلباً في وجه المواقف الدولية الكبرى تجاه «حزب الله»، واصراره على التعاطي معه كحزب لبناني يمثل شريحة واسعة من اللبنانيين، رافضاً كل اشكال التصنيف الدولية والاوروبية له كـ «مجموعة ارهابية»، لم تعد تكفي لمبادلته في تسهيل تأليف «حكومة المهمّة»، بعدما كانت الاتصالات قد قطعت شوطاً كبيراً.
ويعترف زوار باريس، وممن تابعوا كواليس عملية التأليف من بيروت، انّ معظم الأسماء التي رشحت للتركيبة الوزارية، كانت قد وُضعت في الكواليس الفرنسية واللبنانية، بمن فيهم هوية وزير المال وعدد آخر من الوزارات الحساسة، بعدما نالت رضى الاطراف المؤثرة، ولا سيما منها رئيس مجلس النواب نبيه بري، الذي حظي برعاية فرنسية متمايزة عن البقية، ليس بصفته الشخصية فحسب، وما هو مطلوب منه كرئيس للسلطة التشريعية في المرحلة التي تلي ولادة «حكومة المهمّة»، بل لأنّه بكل بساطة كان يتعاطى معهم كجزء من الثنائية. وهو أمر ينسحب على رئيس تيار «المستقبل» سعد الحريري والرئيس المكلّف تشكيل الحكومة السفير مصطفى اديب، اللذين كانا على اتصال مباشر بباريس، وان لحق بعض التقصير في اطلاع المسؤولين الآخرين على ما يجري تداوله، وكان قد طاول كثراً، وفي مقدّمهم رئيس الجمهورية الذي كان منسجماً مع الطروحات الفرنسية ومكمّلاً لها، مطمئناً الى سير العملية من خلال زيارات الرئيس المكلّف لبعبدا، وما يجريه السفير الفرنسي برنارد فوشيه من اتصالات يومية معه او مع فريقه، الى ان استحق وسام الارز الوطني من رتبة «ضابط اكبر» الذي منحه عون ايّاه امس.
وتزامناً مع عملية البناء في تركيبة الحكومة، وما أُنجز من اسماء أُسقط بعضها على الحقائب دون ان يتسرّب اي منها الى ما هو ابعد من الكواليس الضيّقة، فقد اعتُبرت سابقة لم تشهدها العقود الماضية. وبقي الوضع قائماً الى ان سقطت «اسوار الحماية» عن الحكومة العتيدة، ومعها كل التعهدات والوعود السابقة، كما انقلبت المواقف. فمن راهن عليهم ماكرون وفريقه باتوا في المقلب الآخر. حتى انّ اعلان الرئيس سعد الحريري عن تدخّله لدى الرئيس المكلّف لإعطاء حقيبة وزارة المال للطائفة الشيعية بات جريمة، وان كان تلبية لرغبات فرنسية ولوسطاء سبق لهم ان ناقشوا الخطوة مع بري قبل موعد العقوبات الأميركية بساعات قليلة، وما كانت تحتاج اليه لاتمامها بقي محصوراً بقبول الحريري وموافقته بما ومن يمثل من رؤساء الحكومات السابقين. وبدلاً من ان يُعمّم الترحيب الفرنسي بخطوة بيت الوسط، وضعها الثنائي الشيعي على لائحة «الأخطاء» التي ارتكبها الرجل، لمجرد اصراره على اعتبارها «لمرة واحدة»، وليست عرفاً يُبنى عليه في المستقبل، ولتشكّل مخرجاً لإنقاذ مهمة الرئيس المكلّف.
وبعيداً من كثير مما يمكن قوله، يعترف زوار باريس انّ الفرصة التي شكلتها «حكومة المهمّة» كانت غالية جداً، خصوصا انّ جميع من سمّاهم ماكرون في مؤتمره الصحافي، واتهمهم بـ «الخيانة الجماعية» وحمّلهم المسؤولية عما آلت اليه التطورات، كانوا قد وافقوا على «حكومة متصرفية» كما سمّاها احدهم، بعد اطلاعه على معظم اسمائها، ولا سيما المكلّفين الحقائب «الحساسة». فقد كان واضحاً انّ عملية تجميع كبيرة جرت للإتيان بوزراء اختصاصيين وحياديين، جُمعوا من لبنان واكثر من عاصمة، كما اختير رئيسها من المانيا، لتنفيذ المهمّة العاجلة التي أُنيطت بها.
ولذلك، فالاخطر اعتبار ما حصل انّه «بات خلفنا»، وبات البلد مشرّعاً اكثر من اي وقت مضى على مجموعة من «السيناريوهات السيئة» على اكثر من مستوى سياسي ونقدي واجتماعي وربما امني، مع الاعتراف الشامل بصعوبة اي خيار يقود الى الإنقاذ سريعاً. فالوقت لم يفت بعد، واستدراك الأمر بات على همّة المسؤولين اللبنانيين، ان اتعظوا من كلام ماكرون وقراءته لكل التطورات المحيطة بما جرى. فهم على قاب قوسين او ادنى من التجربة الصعبة، التي تخضع لاحتمالي النجاح او الفشل.