IMLebanon

كما قالت المدام بونابرت

في أزمان الانحطاط، ينحط كل شيء، أي كل شيء جميل: الاخلاق، بمعنى القيم والرقي والضمير وباقي الخصائل، والفنون، بمعنى الابداع والتميّز والتفوق في الأدب والفكر والرسم والموسيقى والغناء والمسرح، وفي وسائل التفاهم والتلاقي، بمعنى الاكاديميا والصحافة والسياسة والتعليم والمنتديات والرياضة وباقي النشاطات المشتركة.

باختصار، في كل شيء. لأن الانحطاط، مثل كل الأوبئة، عدوى. وينسحب ذلك على المراحل والحقب والعصور. ويلحق الظلم بالاستثناءات، كما في القرون الوسطى، أو بالأقلية الصامتة التي عجزت عن دفع الظلام والضحالة والخواء، فمرت الازمان من غير أن تتوقف عند المنارات التي اطفأها السفول العام لئلا تفضح نخره في هيكل الحضارة ودعوات النور.

الأنظمة المطلقة، التي ترجمت تلطيفاً وخطأ بالشمولية، كانت تُقدم قبل أي شيء في التأسيس على إلغاء وسائل النهضة واسكاتها وطمسها. الثورة الفرنسية التي قامت بوحي من فكر فولتير وروسو ومونتسكيو، عمدت وهي في ايدي غلظائها وقتلتها، إلى الغاء كل مسحة من فكرهم. أول ما فعله لينين، الغاء الإنسانيات من الفكر الماركسي. أول ما فعله نابوليون، الآتي باسم الثورة على الملكية، أنه سمى نفسه امبراطوراً واشقاءه ملوكاً. وعندما قيل للسيدة بونابرت، هنيئاً لكِ، أماً لأمبراطور وثلاثة ملوك وملكة، قالت في غريزة الأم: أجل، إذا دام ذلك!

Oui, pourvu que ca dure.

لم يترك نابوليون اخاً أو اختاً أو صهراً إلاّ ولاّه بلداً اوروبياً ما. وباستثناء شقيقته، كان الجميع من ضحلة القوم. بسرعة بدأ التحلل، وعم الانحطاط وعاد الامبراطور مهزوماً من قرية واترلو، تاركاً لفرق من اللحامين والمنجدين، مساعدة الأطباء في بتر الأعضاء وجمع الأشلاء. ولكن يُشهد له، كما يُشهد لصدام حسين في ما بعد، أنه “حافظ على رباطة جأشه”. والجأش عند العرب هو القلب أو النفس. ويقال ذلك في من يهلك بلده وشعبه وهو لا يتحرك.

المسيح بكى. وحتى يوضاس بكى. وأبطال شكسبير لطالما ذرفوا الدموع مدرارة دون خجل: يا اخي ماركوس، لا يمكن منديلك أن يحمل دمعة واحدة مني، لأنه مبلل بدموعك! الرجال لا يبكون! يتفرجون على الأوطان تغرق وأحداقهم متحجرة مثل قوائم الذئاب. آية الرجولة حبس الدمع وحماية الاحداق من صفائها.

أول ما يغيب في الانحطاط، النُخب. سمّاها الروس الانتليجنسيا. ليس في حقل واحد، بل في جميع الحقول. المجتمع، مثل الغابة، لا تصنعه شجرة واحدة. والابداع لا يعيش وحيداً أو معزولاً. اطفأت الفاشية، مثل الستالينية، جميع شموع الابداع، وفي النهاية بقي الابداع سابحاً فوق برك الدماء، ومحلقاً فوق المقابر الجماعية. سوف تظل روسيا إلى الأبد تُعرَّف بتولستوي وبوشكين وغوركي وتورغينيف. أما ستالين وبيريا، فيبقيان موضوعي دراسات نفسية في جميع المعاهد. أو موضوعاً في مسرحية مثل ماكبث والملك لير. 600 كتاب سجلت هارفارد، موضوعها ستالين.

لا يزال بعض الصحافة وبعض المسرح وبُعيض السياسة يكافح من أجل ألا يتحول الوحل سمة وطنية عامة. الصحافة الكبرى لا تزال ترفض التحول هوامش فضائحية ومبتذلات لا تليق بالماضي ولا بالحاضر ولا بالمستقبل. والمسرح لا يزال يرفض الرطانة. والرسم وحده يتقدم ويبدع غير آبه بكثافة التلوث وضباب حديثي النعمة. واطال الله في عمر فيروز، فهي تكفينا لمائة سنة آتية. وداعاً للعصور الذهبية وحقول التوليب على رؤوس الجبال وفي الأودية وسواحل المتوسط. وداعاً للتميّز، ربما إلى الأبد.

يجب دائماً البحث عن النُخب، مع الاعتذار. عندما كنت يافعاً كنت أصغي في اذاعة لبنان إلى حديث اسبوعي يقدمه بولس سلامة بعنوان “حديث العشية”، وهو مجموعة دراسات مختصرة ومبسطة حول “نفسية الجماهير”. بقي في ذاكرتي من تلك الأحاديث ان الانسياق خلف المد الغرائزي والتيارات الشعبوية، يعود دوماً على الأمم بالخراب، وعندما تستفيق الجماهير من سكرة الشوارع، وتعود إلى منازلها ومكتباتها وحكمائها، يكون كل آن قد فات أوانه ولم يبق سوى فحم الاندثار.

وسط هذا الموج العاتي من عزل النُخب واحتقار المقاييس وازدراء المستويات وتفشي “الميديوكرات” وفحش الرعونات، اشعر للمرة الأولى بالخوف على لبنان. لأن لبنان ظاهرة من ظواهر الابداع في التاريخ. أسس الفينيقيون امبراطورية من دون أن يحملوا حربة واحدة! ملأوا البحار من غير بوصلة أو خريطة، إلا بوصلة الحس السليم وحب السعي واللحاق بالأفق، بعيداً من صغر الحجم وضيق الأرض.

وظل لبنان بلداً صغيراً دون بعض جالياته. ولكن في عالمه العربي كانت الحريّة هي الابداع. وصناعته في جغرافيته المتوسطية كانت الانفتاح والالتقاء. وفرادته في عالمه الاسلامي كانت دينه المسيحي وحضارته الاسلامية الكبرى. وحرفته الكبرى كانت تطوير الاشياء وليس تتفيهها. نَقَل الرسوم الهيروغليفية وحولها ابجدية.

غارت منه دول كبيرة كثيرة، كما غارت روسيا من بريطانيا: كيف لدولة في هذا الحجم أن تبني امبراطورية في ذلك الحجم. وغارت منها المانيا. وارسل هتلر طائراته يحاول أن يدمر لندن التي فيها أهم بنوك العالم، وأهم شعرائه، وأهم مسارحه، وأهم اساطيله التجارية والحربية. وأيضاً اهم جامعات العالم، وأهم صحفه.

في نهاية الصراع سقطت البلدان التي كانت تخرج فيها الجماهير إلى الشوارع والساحات لتهتف في سبيل الأذرع المرفوعة. امتع ما في “بيازا ديل بوبولو” في روما أن تتأمل الشرفة التي كان يقف عليها موسوليني لمخاطبة الشعب. أفظع ما فيها أن هذا الشعب نفسه، الجماهير، خرج عليه واعدمه، كما خرج على تشاوشيسكو والقذافي. كانت البداية المؤرخة مع يوليوس قيصر، “تموز” القياصرة وأول اباطرة روما الذي هتفت الجماهير طويلاً لحياته. ومرة واحدة لموته. والآن هو فقط “ملك الكُبّة” في ورق اللعب.

Pourvu que ca dure، قالت المدام بونابرت.

لا تعني لي المتاحف كثيراً، فما هي إلا ظلال وأخيلة لأناس كانوا يوماً ملء الأرض. لكنني ذهبت إلى جزيرة البا لاتأمل كيف انتهى أحداً اعظم جنرالات التاريخ منفياً في فيلاَّ عادية في جزيرة عادية. في احدى الغرف سرير صغير. وحكايته أنه السرير الذي ارسلته إليه المدام بونابرت Madame Mere, من باريس، خوفَ ألا تريحه تخوت البا.

يقرأ المرء التاريخ، أو يعيشه، مثل فيلم درامي يبحث عن نهاية سعيدة. والنهايات السعيدة ليست متوافرة دائماً، حتى لو كان البطل الامبراطور الخارق الذي انتهى أسير أسرته. وكانت Madame Mere تعرف ابناءها جيداً، فعندما هُنئت بعروشهم كان ردها: Pourvu que ca dure. ليسوا جميعاً نابوليون لأن الرحم يخل احياناً. الرجل الذي اعطى العالم القانون المدني والاستراتيجية العسكرية، سقط في مصيدة العائلة. اخذ منه ديغول الفكر المدني و”اللحظات البونابرتية” وصنع من التجربة دستور الجمهورية الخامسة.

كان نابوليون أيضاً صنيعة الازدهار الفكري الذي نشأ عن عصره: هوغو وبالزاك وستندال. ولذلك، مشى مليون فرنسي في وداع رماده. لم يكن عصره وحده، كان ايضاً عصر الديبلوماسية بين يدي تاليران. وظلت الخارجية الفرنسية حتى نهاية ديغول، غالباً، في حقائب عمالقة الفكر الفرنسي. ثورة ايار 1968 سطَّحت المستويات الامبراطورية والتقاليد الجمهورية، في فرنسا والعالم. “الرجل الكبير” الذي بحث عنه نابوليون، قرر أن يصبح رجلاً عادياً. و”الدولة الكبرى” التي ارساها ديغول لم تكافح في وجه العاديات.

ذات مرحلة وحِقَب، كنا نتطلع في حجمنا الصغير إلى محاكاة الدولة الانتدابية التي رفضنا حكمها. كنا ندقق في سِيَر السياسيين والموظفين وكفاياتهم. ولم يكن حجم البلد عقبة أمام ازدهار الترقي والتقدم والتميز. كما يأتي الازدهار مثل فرقة واحدة، يأتي الانحطاط مثل زمرة واحدة. طبيعة الاشياء أن يملأ الانحطاط فراغ النهضة. تصبح العبقرية مذمّة والموهبة ازدراء. ويصبح الفكر مُطارداً وخارجاً على القانون وعدواناً لا يُطاق. ولا تعود الناس تعرف الفارق.