تفاعلت تداعيات الحصار التجويعي الذي يفرضه النظام السوري وحلفاؤه على بلدة مضايا، مع تسريب صور مرعبة لأطفال ومدنيين، لا يمكن أحدا أن يتصور أن تحصل في سوريا في هذا القرن، بحيث اضطر النظام في الساعات القليلة الماضية الى إعلان موافقته للامم المتحدة على السماح بعبور بعض المساعدات من أجل الحؤول دون تعاظم المسألة وإحراج حلفائه. وبغض النظر عن التزام النظام ذلك ام لا، وهو الذي يتقن الألاعيب على هذا الصعيد، فإن التفاعلات أخذت أبعادها في لبنان، خصوصا أن البلدة المحاصرة لا تبعد سوى كيلومترات قليلة عن الحدود اللبنانية في ظل تواتر معلومات عن مشاركة عناصر “حزب الله” في هذا الحصار، وهو ما اتخذ بعدا إضافيا ترددت انعكاساته في الداخل اللبناني. إذ فجأة بدا كل المنطق الذي يرفعه المجتمع الدولي إزاء الاستعداد للبحث في السعي الى تطبيق وقف النار في سوريا قرابة منتصف الشهر الجاري، تمهيدا لمفاوضات بين النظام والمعارضة، سخيفا مع انكشاف تداعيات الحصار الذي يمارسه النظام السوري على بلدة مضايا منذ ستة أشهر، وباتت الصور المتناقلة من البلدة أشبه بما كانت تنقله وسائل الاعلام عن المجاعة في الصومال، إنما في القرن الماضي. وبدا أن هناك جانبين نافرين على نحو سافر في هذ ا الواقع: احدهما هو مشاركة “حزب الله” في هذا الحصار، وهو لم ينف هذه المشاركة التي تمت الاشارة اليها علنا او ضمنا على ألسنة مسؤولين أجانب متابعين للشأن السوري تولوا قبل ايام كشف ما يتعرض له أبناء البلدة على غرار ما كان عليه موقف المندوب البريطاني الى سوريا غاريث بايلي. ففي الوقت الذي لا يجد خوض الحزب القتال في سوريا أي منطق دفاعا عن نظام بشار الاسد في وجه السوريين، فإن المنطق الذي اعتمده دفاعا عن اعدام الشيخ نمر النمر في المملكة السعودية يضعف بقوة إزاء استشراسه في الدفاع عن شخصية جدلية قد تكون لها حيثيتها لديه، في الوقت الذي يسمح بتجويع زهاء 40 ألف سوري. ففي الحروب يتم اللجوء الى كل الممارسات الممكنة من أجل كسب المعارك، لكن ثمة اسئلة جدية تثار في وجه الحزب ازاء مشاركته في الحصار التجويعي لمضايا، وكيف ينسجم ذلك ليس مع عقيدته القتالية فحسب بل مع اخلاقيته التي يرفقها بهذه العقيدة، والتي يسعى من خلالها الى التعالي على الاخرين. فالصور التي يتم تناقلها عن الاطفال وحالهم الصحية الضامرة من الجوع لا يمكن أن تشكل في أي حال نقطة مضيئة في حال الحزب وواقعه الراهن ازاء مواطنيه كما ازاء الخارج. وهذا يسري عليه دون النظام السوري الذي سبق أن مارس الحصار والتجويع ضد مدنه وقراه، ونراه يخوض حرب بقاء لم يتوان فيها عن تسجيل سوابق في المنطقة وهو آيل الى الذهاب عاجلا او اجلا، في حين ان حسابات الحزب ينبغي ان تكون طويلة الامد سواء بقي الاسد او لم يبق، وسيكون صعبا جدا عدم اثارة حساسيات مذهبية بعيدة في المستقبل. فقد أحدث النظام مناخا غير مسبوق في المنطقة حيث بات كل شيء مسموحا، فأتى بإيران والحزب وكل الميليشيات الشيعية الى سوريا، كما أتى بروسيا ايضا، وهذا لم يحصل منذ زمن القياصرة، وقصف شعبه ولا يزال بالبراميل المتفجرة والاسلحة الكيميائية، ومارس الحصار والتجويع لاخضاع مواطنيه. وتجدر الاشارة الى ان هذا المأخذ لا ينسحب على ابرز حلفاء الاسد، الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، في تاريخه خلال الحروب التي خاضها لتطويع خصومه.
والجانب الذي لا يقل نفورا واستفزازا هو صمت المجتمع الدولي ازاء المأساة السورية، والذي شجع النظام على ممارساته منذ حمص وما قبلها وما بعدها. ولعل الجهود والاتصالات التي تحركت اخيرا جاءت نتيجة الصور المخجلة والمحزنة التي تم تناقلها للاطفال والمدنيين في البلدة، وتتصل بالاحراج الذي يمكن ان تواجهه الدول الكبرى الاعضاء في مجلس الامن الدولي والتي تستعد للبحث في تطبيق خريطة الطريق التي تم الاتفاق عليها في القرار 2254، وتبدأ بمحاولة الوصول الى وقف للنار في موازاة بدء المفاوضات بين السوريين. ليس سهلا ان يرى الرأي العام الدولي الرئيس الاميركي باراك اوباما قبل بضعة ايام باكيا بتأثر لمقتل عشرات الاطفال باطلاق النار في الولايات المتحدة، في حين ان الاطفال في سوريا متروكون لمصيرهم، وكأن السياسة الخارجية للدول الفاعلة والمؤثرة فقدت كل اخلاقيات انسانية او ان حقوق الانسان وجدت اكتفاء لها باستقبال اللاجئين في الدول الاوروبية. وفي المقابل يبدو المواقف من الوضع الانساني في سوريا خاضعا لحسابات الدول الفاعلة على غرار الاعتراض الروسي الشهر الماضي على تفعيل القرار 2191 من أجل نقل المساعدات الانسانية عبر الحدود الى سوريا، بذريعة الخوف من ان تصل المساعدات الانسانية الى مناصري الدولة الاسلامية، وفي ظل اصرار روسيا على تجديد الاذونات حول عبور المساعدات الانسانية المتعلقة بهذا القرار باعتماد خطاب في شأن الارهاب، ويطالب الدول الاعضاء بمنع عبور مناصري “داعش” من سوريا واليها، من دون إغفال الصراع المفتوح بين روسيا وتركيا في هذه المرحلة.