من زمان، تغيَّرت جبهات القتال. بعد الحرب العالمية الأولى، لم تعد العمليات العسكرية بين الفرق والجيوش، لم يعد القتلى من العسكريين. مع دخول الطائرات والصواريخ، باتت المدن ضحايا وسكانها رهائن، والقتل جوعاً وتحت الردم والركام، من يوميات القتال. مدينة درسدن في ألمانيا، نموذج حي. بريشت في مسرحياته يستوحي تلك المقتلة: مدينة تعج بالمدنيين، قصفت عن بكرة أبيها. مدن اليابان، تشهد على الحصار الذي أمات جوعاً الآلاف. مَن لم يمُت جوعاً في هيروشيما، قتلته القنبلة الذرية.
إنما أنت مع مَن؟ مع مضايا أم مع كْفَرْيَا؟
من زمان، تمت تنحية الضمير جانباً. الضمير، في الحروب، عملة خاسرة تسجل لحساب البلهاء. القادة والجنود يعرفون قوانين الحرب. هي قوانين وضعت كي تُنتهك، ويحق للأقوياء أن يقتلوا. العفو يمنحه المنتصرون لأنفسهم. جرائم الحرب تصبح نياشين على صدور الغزاة. عبثاً حاول أصحاب الضمائر أن يعقِّلوا الحرب، أن يجعلوها أكثر إنسانية. ارتكبوا خرافة البراءة، الانتصارات بحاجة إلى مجازر. والمجازر ليست من الأقدار، بل هي من ثمرات الحرب ومن زرع المحاربين. أما وقد بات المحاربون محصّنين، فلم يعد أمام المدنيين غير الملاجئ أو المقابر، والالتحاق بطوابير انتظار «المعونات الإنسانية» والوجبات الغذائية، وعقاقير الدواء. وكالعادة، جرى التمييز بين قاتل لي، وقاتل ضدي، وبين قتيل منّي ومقتول منه… يتنازع المحاربون تهمة الخرق، بجدارة الوقاحة وتفوق الأمرة.
لذلك، أنت مع مَن؟ مع مضايا أم مع كْفَرْيَا؟
يروي الفتى الياباني كايجي ناكازاوا، عذاباته قبل أيام من قصف هيروشيما. يمكن أثناء القراءة تخيُّل أطفال مضايا وكْفَرْيَا، ليس كما روّجت الصور الحقيقية أو المزيفة. كما يمكن تذكر أطفال بغداد، والعراق عموماً، قبل الغزو الأميركي وإبانه وبعده. (كم طفلاً قتل وكم مقبرة وكم فاجعة!) كما يلزم تذكر مادلين أولبرايت عندما صرَّحت بأن هذه كلفة لا بد من دفعها، لنيل هدف سياسي كبير. وطبيعي أن تُفتح نافذة لاستذكار مخيمات تل الزعتر وشاتيلا وصبرا. (في شاتيلا، جاءت المساعدة من خلال فتوى سمحت لجوعى المخيم بأكل القطط).
كما أنه من المفترض استذكار بيروت، «الغربية» آنذاك، إبان الحصار البري والبحري والجوي في صيف الـ 82. ومن المهم أن يلتفت القارئ إلى الجوع في اليمن والمرضى بلا دواء، وإلى الأطفال يموتون على أثداء أمهاتهم… وأثناء القراءة، يمكن أن نسأل: «أنت مع مَن؟ مع مضايا أم كْفَرْيَا»؟
يروي الفتى الياباني يومياته: «كانت مقاومة الجوع تصعب يوماً بعد يوم. أحتفظ بذكرى مؤلمة جداً. كنت أحلم بالأرزِّ الأبيض. منذ بداية الحرب والحصة الغذائية مقننة وتتضاءل باستمرار، حتى اختفت… أخي قدمت له وجبة أولى وأخيرة. إنه الجوع… عندما كانت القطة كورو تلتقط سمكة أو عصفوراً كنا نطاردها كي ننتزع منها الطريدة. كنا نلتقط الحشرات ونشويها ثم نأكلها. ونظل بعدها على جوع. الوقت الطويل نمضيه في البحث عن لقمة… ازدادت المجاعة. فنبتت قروح في جلدنا. بكينا من الجوع والألم. (آلام الجوع فظيعة). لم نجد دواء لمعالجة أوجاعنا. يأخذنا أبي ليداوي قروحنا بمياه البحر المالحة! كم كان مؤلماً. أما أمي فكانت تطعن الدمامل بالدبوس ليخرج منها القيح والعمل والصديد».
برغم ذلك، لم يسأل أحد هنا، إن كان ناكازاوا ورفاقه من مضايا أو من كْفَرْيَا. المسألة تُقاس بمعيار أخلاقي فقط. لا حدود تفصل بين جائع هنا وجائع هناك. في السياسة يمكن أن تنحاز وترسم حدوداً، فتلتزم بمعسكر ما في مضايا أو بمعسكر آخر في كْفَرْيَا. الأخلاق والمبادئ الإنسانية، التي تجعل من المخلوقات الناطقة بشراً أسوياء، لا وحوشاً، تمنع ذلك، لأنه جريمة بحق الإنسان، وبحق الإنسانية.
نحن، على ما يبدو، «نضع السيف في موضع الندى». نضع التحزب في الجرح ونمعن تعذيباً وتشويهاً. وإلا، كيف نفسر الحملات التحريضية والحملات المضادة؟
يعيش العرب حالة مضايا وكْفَرْيَا في كل الحروب المشتعلة. ينقسمون ويقسَّمون، وفق ما تمليه أهواؤهم وغرائزهم. لا نقد للمواقف المسبقة، كل نقد يرتدّ تهمة على صاحبه. في الحرب، الأمر فقط للقادة، بهدف نجاح العمليات العسكرية. وكل ما يسمح بذلك مسموح وشرعي، بما فيه قتل الأبرياء، ولو كانوا بالعشرات أو بالمئات أو بعشرات الآلاف. الندم نادر على ما يرتكب. وهناك شواذ:
يكتب الفيلسوف النمساوي غونتر أندرز عن قائد الطائرة الأميركية كلود أشرلي الذي ألقى القنبلة الذرية على مدينة هيروشيما. كان أشرلي ينفذ أمراً. وكان مرتاحاً أثناء تأدية مهمته. إنه يقوم بواجب وطني كبير. لكن، بعد ذلك، شعر قائد الطائرة أنه مذنب. أنه مجرم. أنه مسؤول عن قتل عشرات الآلاف، ساءت حالته الصحية، فوُضِع في مصح عقلي. وكان في عزلته يقول: حاكموني. عبث. إدانته تدين المجتمع الأميركي، الذي رأى في هيروشيما انتصاراً.
هل أنت مع أشرلي أم مع بول تيبتز؟ الثاني اعتبر أنه «قام بعمل عسكري كغيره من الأعمال العسكرية. لم يشعر بقلق ولم يُصَب ليلة واحدة بأرق. ينام ملء جفونه. لقد شعر بارتياح كبير عندما علم أن قصف ناكازاكي كان ناجحاً. ولذلك، ترأس في ما بعد احتفالاً لإعادة ترميم الطائرة القاذفة، عبر جمع الأموال، وسط حشود تصفّق للمجزرة… فأنت مع مَن، مع أشرلي أم مع تيبتز؟ أنت مع مَن يصرخ: «عاقبوني»، أو مع مَن يرفع إصبعيه علامة النصر؟
بائس هو العصر الذي يكون فيه أصحاء الضمير في المصحّات العقلية، ومرضى الضمير خارج المصحات، يقودون العالم، إلى هذا الهلاك.
ثم، وأخيراً، ما جدوى استمرار الحرب في سوريا؟ لأي هدفٍ بعد؟ لأي شعب تمّ تقسيمه هذه القسمة المجزية قتلاً وتعذيباً وتهجيراً؟ أَكُلُّ هذا القتل، من أجل بقاء سلطة فوق الركام، أم من أجل سلطة من ركام؟
مضايا والفوعة وكْفَرْيَا و… ماضٍ لن يمضي أبداً. والعبرة في صحوة الضمير، وليس في الصحوات الدينية الرثة.