IMLebanon

ضرب من الجنون

المتابع لموضوع سلامة الغذاء والمطالبة بإقرار الهيئة الوطنية لسلامة الغذاء يشعر للوهلة الأولى أنّ هذه الهيئة تملك الحلول السحرية، وأنها ستكون الأداة الفعالة لضمان غذاء سليم بشروط عالمية، وأنّ لبنان سيتحوّل بعد إقرار الهيئة الى بلد متطوّر في هذا المجال، وسينام اللبنانيون قريري العين وهم مطمئنّون إلى أنّ صحّتهم باتت في يد هيئة فاعلة ستُبدع في مجال سلامة الغذاء.

لكنَّ الحقيقة مغايرة، ولكي لا يتّهمني أحد بأنّني أحكم عليها قبل رؤية الأداء، فأستشهد بما قاله مرة ألبرت اينشتاين: «الجنون هو أن تفعل الشيء ذاته مرةً بعد أخرى وتتوقع نتيجة مختلفة».

وبالفعل فخبرتنا مع الهيئات والمجالس تدفعني بكل ثقة لأن أجزم بأنّ هذه التجربة ستكون فاشلة كمثيلاتها من الهيئات والمجالس التي لم تُقدّم أو تؤخّر في لبنان وباتت مزراباً للهدر المالي لا أكثر ولا أقل.

وإذا أردت أن ألعب دور العرّافين، فإنّني أرى الصورة واضحة أمام عيني، حيث ستتدخل السياسة من بابها العريض وستتم المحاصصة والتوظيف والتنفيعات لتتحوّل الهيئة بعد فترة وجيزة الى آلة معطّلة لا حول لها ولا قوة.

وحيث بحسب القانون إنّ الهيئة سترتبط برئيس مجلس الوزراء الذي يمارس سلطة الوصاية عليها، فاسمحوا لي أن أعدّد الهيئات والمجالس الملحقة برئاسة مجلس الوزراء لتحكموا بأنفسكم على الفعالية، وأعدّد الهيئات ذات الدور الاقتصادي والاجتماعي مستثنياً المحاكم والمجالس الدينية والإفتاء.

ونعدد هيئات الرقابة: مجلس الخدمة المدنية، التفتيش المركزي، الهيئة العليا للتأديب، ديوان المحاسبة، المديرية العامة للإحصاء المركزي، المديرية العامة لأمن الدولة، المجلس الوطني للبحوث العلمية، مجلس الإنماء والإعمار، مجلس الجنوب، المجلس الاعلى للدفاع، المجلس الأعلى للخصخصة، المجلس الاقتصادي والاجتماعي، الصندوق المركزي للمهجرين، الهيئة العليا للإغاثة، هيئة رعاية شؤون الحج والعمرة، المؤسسة العامة لترتيب منطقة الضاحية الجنوبية الغربية لمدينة بيروت «اليسار»، المؤسسة العامة للأسواق الاستهلاكية، المؤسسة العامة لتشجيع الاستثمارات في لبنان، معهد الادارة العامة (مؤسسة عامة)، مؤسسة المحفوظات الوطنية، تعاونية موظفي الدولة.

وبالطبع ستنضمّ الهيئة الجديدة الى مثيلاتها من الهيئات والتي إن أردنا أن نُحلّل إنتاجيتها مقارنة بالأموال المهدورة لوجَدنا سوء الإدارة وهدر المال العام واضحاً وضوح الشمس.

إنّ نص القانون المقترح من شأنه تفريغ بعض الوزارات وإدارتها (وزارة السياحة، وزارة الصناعة، وزارة الاقتصاد…) من صلاحياتها ومنحها إلى الهيئة اللبنانية لسلامة الغذاء المنوي انشاؤها ولا سيما في ما يتعلق بمهام الترخيص بإنشاء واستثمار المؤسسات المعدة لتقديم الخدمات الغذائية أو تصنيعها وتعليبها وبيعها وغيرها (المادة 19).

إذ إنّ الترخيص بالمؤسسات المعدة لتقديم الغذاء والمشروب هو صلاحية وزارة السياحة، كما أنّ وزارة الصناعة تُعنى بتأسيس المؤسسات الصناعية كافة ويعود لها تحديد أصول الترخيص وإجراءاته وشروطه بإنشاء المؤسسات الصناعية واستثمارها.

وتتولّى وزارة الاقتصاد عبر مصلحة حماية المستهلك مراقبة المنتجات الغذائية والتثبّت من سلامتها ومكافحة عمليات الغش، وتتولى مؤسسة المقاييس والمواصفات اللبنانية وحدها وضع المقاييس والمواصفات الوطنية ونشرها وتعديلها ومنح حق استعمال شارة المطابقة للمقاييس والمواصفات والتي تتناول القياسات والمصطلحات والرموز وتحديد النوعية للمنتجات والسلع وطرق الفحص والتحليل والاختبار وأصول العملية المهنية وقواعد الانشاءات الفنية، وغيرها من الوزارات والإدارات العامة المختصة والمعنية مباشرة بموضوع المنتجات الغذائية.

إنّ المادة 20 من مشروع القانون المقترح، بجَعل الهيئة المنوي إنشاؤها شريكة في أكثر من إدارة ومجلس ولجان في المجالات الصحية والزراعية والبيئية والصناعية وغيرها، تجعل منها مؤسسة لا مثيل لها في التشريع اللبناني، تنحصر بين أيديها صلاحيات جمّة متداخلة مع صلاحيات إدارات ومؤسسات أخرى من شأنها تعقيد المعاملات الادارية عوض تسهيلها وتعدّد الجهات المعنية بما يُخالف التوجّه الحديث للإدارة العامة المتمثّل بتبسيط المعاملات الإدارية وحصرها قدر المستطاع في جهة واحدة.

كما أنّ عمل المراقبين الغذائيين المنوي استحداثهم (المادة 23) يتضارب ومهام مفتشي حماية المستهلك والشرطة السياحية والضابطة السياحية… كما أنّ النص لم يُبيّن كيفية التنسيق بين مختلف الوزارات والإدارات الأخرى المعنية بضبط المخالفات.

فبدلاً من أن نقوم بتفعيل عمل الوزارات المعنية والاستفادة من المفتشين والموظفين الموجودين أصلاً، نتّجه الى إنشاء إدارة رديفة وزيادة هدر المال العام، من دون تصوّر حتى اليوم كيف ستقوم هذه الهيئة بعملها، ولماذا ستختلف عن الوزارات المعنية أساساً بهذا الموضوع؟

في ظل التردّي الرهيب في الإدارات العامة ولضمان صحّة المواطنين، والى حين إجراء تغيير جذري في عمل الإدارة وورشة تصحيح حاسمة تُعيد الى هذه الإدارة المهترئة بعضاً من حياتها وإنتاجيّتها، يبقى تأسيس أيّ هيئة في ظل العقلية والأداء والمسؤولين أنفسهم ضرباً من الجنون وانتحاراً جماعياً.

لن نُحقّق نتائج حقيقية ونعيد المصداقية الى سلامة الغذاء اللبناني الذي تعرّض الى الكثير من تشويه السمعة بعدما نشرنا غسيلنا الوسخ على الملأ، إلّا من خلال التعامل مع شركة خاصة عالمية ذات معايير وتصديق عالمي، نكلّفها إجراء الفحوص الدورية على غرار ما قامت به وزارة السياحة مع شركة Bureau veritas في تصنيف المؤسسات السياحية والتي اعتمدت المعايير العالمية والتي تدخل في التفاصيل كافة، من خشبة تقطيع اللحمة والخضار ومجالي الغسيل وصولاً الى التخزين والتقديم وحتى النقل.

لن نُقنع العالم اليوم بأنّنا جديون في ظلّ هيئة من هذا النوع. لن يشعر المواطن والسائح والمغترب بالأمان الغذائي ما لم يرَ أنّ شركة عالمية قامت بالتدقيق والتمحيص والموافقة على الترخيص، كما إجراء كشوفات دورية للتأكّد من سلامة الغذاء. وأؤكد أنّ الشركات العالمية شفافة أقلّه أكثر من مؤسساتنا العامة!

للأسف أوصلنا أنفسنا الى مرحلة باتت الثقة بأيّ إدارة رسمية أو هيئة او مجلس معدومة، وهذا واقع لا يمكن لأحد إنكاره.