كلام في السياسة |
ينسى كل فريق سياسي يتورط في الانتخابات البلدية هذه الواقعة الأساسية. أنه سنة 1963، كانت الدولة اللبنانية في أحسن أحوالها. لا حرب ولا من يتحاربون. ولا إرهاب ولا من يرهبون أو يهربون. لا بل كانت دولة فؤاد شهاب في ذروتها تقريباً. ومع ذلك، أُجِّلَت الانتخابات البلدية والاختيارية التي كانت مقررة سنتذاك، ومن دون تبرير ولا تفسير.
صحيح أن بعض دوافع التأجيل مرتبط بالذهنية، أو ببنية النظام وبثقافة طبقته السياسية. لجهة ميل السلطة وأهلها ودولتها كاملة، إلى حصر كل شيء في أيدٍ قليلة معدودة معروفة ومضبوطة. أي إنه الكره المبيَّت، أو البغض المكبوت والرفض الكامن لدى كل سياسي في هذا البلد، لكل ما هو توزيع سلطة أو توزيع ثروة. والبلديات، في طبيعتها وتعريفها، هي شيء من ذلك. هي في الحقيقة العلمية وفي الواقع العملي، انتزاع لبعض سلطة المركز، ومنحها لبعض الناس في أماكن عيشهم وقهرهم وبؤسهم. وهو ما يتناقض مع فلسفة النظام والدولة والسلطة في لبنان. لا بل في منطقتنا كلها. لذلك، هناك دوماً هذا الميل السلطوي نحو المركزية المشدّدة ونحو الحصرية المتطرفة ونحو الاستئثار والإلغاء والإقصاء… لكن ثمة سبب آخر ممكن لإلغاء الانتخابات البلدية والاختيارية منذ عام 1963. إنه تخلف لبنان وقصور اللبنانيين عن فهم جوهر «الحكم المحلي» المتمثل في بنية البلديات، وعن إدراك الهدف الأعمق لهذه الوسيلة الديموقراطية نحو الحوكمة الصالحة. هدف يختصر بالتنمية مع الخصوصية. لا بل قد يكون السبب بكل بساطة، أن البلديات في لبنان كانت دوماً أداة فساد وإفساد. وهي بذلك كانت في تنافس دائم مع فاسدي السلطة المركزية، تقاسمهم مغانم بقرة الدولة وتقتطع لزبائنياتها حصصاً تأخذها من أفواه «الفروماجيست» لا غير. فكان الرد دوماً عليها بالنزوع نحو تأجيلها أو إلغائها. وإلا وضعها تحت هيمنة السلطة المركزية، عبر موظف من فئة ثانية أو ثالثة، لا يقل فساداً عن السياسي والبلدي معاً.
هذا المشهد الأساسي، سها عن بال بعض القوى السياسية، وخصوصاً المسيحية منها، حين رفعوا سقوف خطابهم الإعلامي في مواجهة الاستحقاق البلدي. أكثر من ذلك، مشكلة البعض أنه ينسى تاريخه نفسه. ويقفز فوق العبر التي اكتسبها بتجاربه نفسها. فالانتخابات البلدية التي غابت سنة 1963، أعيدت فجأة سنة 1998. والتوقيت لم يكن عفواً ولا مصادفة. يومها رتب هذا الاستحقاق عشية نهاية ولاية الياس الهراوي الممددة، كواحدة من أدوات التسويق لرئاسة قائد الجيش في حينه، إميل لحود. لا لشيء، إلا لأن غالبية أهل البلديات ــ مع استثناءات محترمة ــ من النوع الذي يحترف لعق النعال مقابل تسيير مصالحه. وكلما غلظ النعل، أثبت اللاعق كفاءة لسانه في كل مجال ومكان… وتكررت الظاهرة نفسها سنة 2004. وسقط يومها لقاء قرنة شهوان في فخها. وتكررت سنة 2010 وسقط كل الآذاريين في مستنقعها… ولم يتعلم أحد منهم. فالمسألة في هذا المجال ليست مرتبطة بأشخاص ولا بأسماء ولا بأفراد. إنه نظام مافيوي كامل. يبدأ من القوانين المالية للدولة. ولا ينتهي بطريقة ووساطات تعيين المراقبين الماليين على البلديات. مروراً طبعاً بثلاثية القبائلية العائلية، زائد المال السياسي المحلي، زائد المصالح والمنافع التي تراكمها البلدية وتوزعها على مفاتيح ناخبيها. إنه نظام عصي على أي حزب أو فريق أو ثورة أو تغيير. تريدون أمثلة تطبيقية؟ على سبيل المثال، في بلدية صغيرة عدد المقترعين الفعليين المقدرين، لا يزيد على 700. أي إن ضمان أصوات 300 نسمة كاف للفوز بانتخاباتها الآن، لا بل مدى الحياة. وفي المقابل، في صندوق هذه البلدية أكثر من 6 ملايين دولار، مجمدة مرصودة لليوم المنشود. هكذا يمكن رعاتها أن يرشوا كل مقترع بآلاف الدولارات. فضلاً عن إمكان تدخل القائمقام شريكاً في الرشوة… في بلدية أخرى أكبر نطاقاً، يبلغ مجموع المساعدات السنوية التي يمنحها «الريس» أكثر من مليوني دولار. أي 12 مليون دولار في ولايته السداسية. أي معسكر آذاري يقدر على مواجهته الآن؟ في بلدية ثالثة، تجمعات العائلات والأصوات مفروزة بشكل واضح. يكفي أن يمنح «الريس» التزام الحفافي لوجيه عائلة، والقنوات لممثل أخرى، ورخصة مقلع صخر لشيخ قبيلة ثالثة، حتى يلغي الانتخابات فعلياً… وهكذا في كل قرية ودسكرة وبلدة ومدينة، مما يعرفه الجميع ويكتمه الجميع من ضمن محرمات نظام المافيا الذي نعيش.
في هذا المستنقع الموحل والوسخ، وضعت القوى السياسية ــ وخصوصاً المسيحية منها ــ أرجلها وأيديها وبعض الرؤوس. بخطابات عالية لم تلبث أن تراجعت وانخفضت حتى بلغت مستوى المستنقعات نفسها. الخسائر الأولية ملحوظة. بين تشظي محازبين هنا، وتناقض في الخطاب هناك، وخسارة حلفاء في السياسة هنالك. لكن يظل مؤكداً أن الأوان لم يفت لتجنب الخسارة الكبرى في السياسة. لا يزال الوقت متاحاً لخطاب سياسي حزبي، يؤكد أن الاستحقاق تنموي أولاً وأخيراً. وأنه متروك للناس، ولحلم شربل نحاس في وطنٍ، ترويكاه الوحيدة الفعلية، لا بين طوائف ولا بين مذاهب ولا بين ثلاث رئاسات… ترويكاه الوحيدة هي بين هو مستعد لبيع أي شيء، وبين هو قادر على شراء أي شيء، وبين هو جاهز لتحديد العمولة على كل شيء!