قصّة رمّانة أم قلوب “مليانة”؟
أبعد من الغلاء والقلق واليأس والقنوط، ومن الموت بلا دواء، والعيش بلا مياه وكهرباء وبلا بنزين وخبز واوكسيجن حياة، هناك من يستقوون على الأرض بوافرٍ من “العصي” و”السكاكين”، وباستعلاءِ من امتلك “فائض القوة” ويتباهى، وكأن “الله” أعطاه “جبروتاً” على كل الآخرين وجعل منه، غصباً عن الكل، “أمل” الكلّ… وعلى الرغم من كل ذلك يستمرّ “يطحش” عليهم مكرّساً منطق “ما لي لي وما لكم لي ولكم”. هناك، في مغدوشة، طُبّق المثل…
كل من سمع، قبل يومين، عن هجوم تعرضت له “مغدوشة” من شباب أتوا من “عنقون” المجاورة، تذكر، من دون أن يعرف السبب، جوزف صادر، إبن بلدة درب السيم جارة مغدوشة، الذي انشقّت الأرض وابتلعته صباح 12 شباط 2009. ثمة أمور خطيرة تحدث في البلد ونتجاوزها ونعود وننساها. والفَعَلة، المجرمون، يتّكلون في كلِ مرة على “أن النسيان أخو الإنسان” ليتابعوا أفعالهم. والمجرمون، كي لا يسيء أحد الفهم، من كل الطوائف والملل.
جوزف صادر كان يمرّ يومياً، وهو عائد من مطار بيروت الى درب السيم، من مغدوشة. إثناعشر عاماً مرّت. الحياة تمرّ هكذا بلمحِ البصر ووحده المجرم لا يبالي ولا يتعلم.
أبعد من قضية جوزف صادر “المغيّب”، هناك، في جوار مغدوشة، في عنقون الشيعية، يحبّ البعض القول أن البلدة هي قلعة السيد موسى الصدر المغيّب، الذي قال ذات يوم “الطوائف نعمة والطائفية نقمة”. وبالفعل، هناك الكثير، في عنقون وفي سواها، ممن يمشون على خطى الإمام الصدر، لكن، في المقابل، هناك من ينسون كل الأقوال حين يحلو لهم الأمر شاهرين أقله سكيناً أو رافعين عصا في وجه “الجار المسيحي”. هذا ما حصل عند مغيب شمس ذات يوم من آب في مغدوشة.
فلندخل في التفاصيل. فلنذهب الى مغدوشة التي تبعد نحو 50 كيلومتراً عن بيروت، التي قيل أن عشتروت إلهة الحب والجمال عند الفينيقيين سكنت بين أشجار صنوبرها وزيتونها وكروم العنب فيها. ننظر الى فوق، نحو الأفق، فنرى مقام سيدة المنطرة، على تلة تشرف على الساحل الجنوبي لمدينة صيدا. هنا، في هذا المكان، كانت العذراء مريم ترافق يسوع في زياراته الى صور وصيدا. وهنا، إنتظرت عودته في كل مرة من جولاته التبشيرية. وأطلق على هذا الموقع تسمية سيدة المنطرة، أي سيدة الإنتظار، إنتظار العذراء ليسوع.
سكاكين وعِصي
البارحة، من كم يوم، كان حشد من الأهالي، كما جميع اللبنانيين في كل مكان، يقفون في طابور البنزين الطويل، في انتظار أن تفتح محطة البنزين “خراطيمها”. في مغدوشة، هناك، لمن يهمه الأمر، محطتا وقود في البلدة وهي تفتح مساء، نحو الثامنة، كي لا تزدحم الطرقات بالمركبات نهاراً. لكن، كما تعلمون، هناك دائماً من يظنون أنفسهم فوق كل القوانين، فكيف بقانون بلدي؟ شبان من بلدة عنقون، التي تضم ثلاث محطات وقود، نزلوا كما عادتهم منذ استفحال الأزمة الى مغدوشة مطبقين مقولة “ما لنا لنا وما لكم لنا ولكم”، وبدل أن يقفوا في الطابور طلبوا فتح المحطة “فوراً”. ومن كلمة الى كلمة شهروا السكاكين ورفعوا العصي وراحوا يشطبون يميناً ويساراً فأصابوا، عن قصد أو بغير قصد، بإحدى “طعنات الغدر”، الدكتور الجراح هشام حايك في كوعه. وهنا ساد قلق شديد واستنفار شديد وطُرحت اسئلة كثيرة: لماذا إصرار هؤلاء أولاد عنقون على تجاوز قوانين مغدوشة؟ لماذا إصرارهم على تعبئة المحروقات من محطتي مغدوشة في غالونات يومياً وبيعها الى أبناء مغدوشة أنفسهم بأسعار خيالية؟ ولماذا يأتون حاملين السكاكين والعصي؟ عنقون شيعية، تتبع سياسياً بغالبيتها الى حركة أمل، ومغدوشة مسيحية. فهل إستقواء عنقون، الجارة، سببه ظنّ بعض من فيها أن “فائض القوة” الذي “يزهون” به يسمح لهم بفعل ما يريدون، ساعة يريدون، ومع كل من يريدون؟
وقاحة
الإختصاصي في طب الأسنان الدكتور روبير خوري، إبن الجنوب، الذي اختار من زمان مغدوشة مسكناَ، يتحدث عن “وقاحة” تُمارس في حقّ بلدة مغدوشة، التي حاولت أن تنظم تعبئة البنزين فيها، إسوة ببقية البلدات، واختارت أن يتم ذلك بين الساعة التاسعة والحادية عشرة ليلاً، لكن “شباب” عنقون نزلوا بالقوة وهددوا، وضربوا بالعصي، وشطبوا بالسكاكين وأتت إصابة الجراح هشام حايك في يده، مع العلم أنه لطيف جداً مع الجميع، يداوي من دون أن يهتم لا بلون ولا بجنس ولا بطائفة وملّة. الدكتور حايك ليس مشكلجياً ولا يؤمن بالعنف”.
يتحدث أهالي وسكان مغدوشة المسيحيون عن عنقون الشيعية، لكنهم يميزون بين “شيعي” و”شيعي”، فزوجة الدكتور حايك أصلاً شيعية، لكن هناك عند الشيعة، كما في كل الطوائف “أوادم” و”زعران”. وابن عنقون “يعمل مشاكل مع نفسه إذا لم يجد من يعمل معه مشكلة. وهذا باعتراف شيعة المنطقة أنفسهم. وبالتالي المشكلة هي في “شعور” من يحب المشاكل أنه “قوي جداً” أقوى من سواه ويحق له ما لا يحق لسواه. هنا تقع المشكلة الأبرز.
هذا هو إبن عنقون. ماذا عن إبن مغدوشة؟ شعر إبن تلك البلدة الرائعة وكأن “المسيحي مكسر عصا” ويقال هناك “هذه ليست أول مرة “يهجم” فيها إبن عنقون مستقوياً على إبن مغدوشة، بدليل أن ولا مرة حصلت المشاكل بين البلدتين في عنقون. والحادث لم يتم صدفة بدليل أن الشباب المهاجمين عادوا نحو منتصف الليل وكمنوا لشاب من آل الشباب، غدي الشباب، ومزقوا دواليب سيارته. وهذا ما دفع الى السؤال: هل ما حدث قصة رمانة أم قلوب مليانة؟
يتكلمون في مغدوشة عن “إفتعال” بعض الشبان (الشيعة) مشاكل متكررة لكن، هذه المرة، أخذ الموضوع ضجة أكبر. وشباب مغدوشة ليسوا “بسينات” لكنهم يحاولون عدم “قطع أوصال” العلاقة مع الجيران، خصوصاً الطيبين منهم، لكن “للصبر حدود”.
طبعاً، وكما في كل مرة، يبدأ “تبويس اللحى”، و”امسحها بدقني”، وتكرج أبيات “العيش المشترك والعلاقات الأخوية” بين عنقون ومغدوشة. في هذا الإطار، نزل وفد من بلدية عنقون وحركة أمل، الى منزل النائب ميشال موسى “للتنسيق”. فهل إنتهت القصة هنا؟ هل “تبويس اللحى” لا يزال صالحاً اليوم؟ لماذا لم يتم إلقاء القبض على أحد؟ أسئلة طرحناها على عضو كتلة التنمية والتحرير (كتلة حركة أمل) إبن مغدوشة النائب ميشال موسى.
حماسة وتشنّج
يرى موسى “وجوب الحصول على مساعدة الجيش لاستيعاب كل تداعيات الحادث” يضيف “إجتمعنا وتداولنا في ما حصل والتقت البلدتان على تهدئة الأجواء ورفع الغطاء عن أي شخص يتسبب بحوادث. وطلبنا من السلطات المحلية وضع برنامج لتسيير شؤون البنزين”. لكن، ماذا أبعد من مشكلة البنزين التي سببت هذه المرة الإعتداء؟ ماذا عن شعور المسيحي أنه مستضعف؟ يجيب موسى “سبق وحصلت مشاكل كثيرة لكن التشنج اليوم أكبر من أي يوم. وهذه، حيث نحن، جغرافيا نحتاج أن نتعاطى معها وخلق آليات لإبعاد الإحتكاكات. ويستطرد: لا أعتقد أن ما حصل ذو خلفية “مسيحي ومسلم”. ويجب ألّا تأخذنا الحماسة الى أماكن أخرى ليست موجودة”. لكن المسيحي يشعر بأن هناك من يستقوي عليه؟ يجيب موسى “الحماسة والحمية في كل مكان وأي إشكال اليوم، بين إثنين، قد يأخذنا الى أماكن أخرى”.
يتحدث نائب المنطقة كمن يمشي بين النقاط. نفهمه. فلنتابع.
رئيس بلدية مغدوشة هو المهندس رئيف يونان. موجود في دبي. ويُحكى هناك، في البلدة، أنه يقدم الى مغدوشة أكثر من قدرة الصندوق البلدي على تقديمه. الكهرباء موجودة. المياه موجودة. والمازوت أيضاً. وأمس، أصدر بياناً عالي اللهجة جاء فيه “لن يألو المجلس البلدي جهداً من أجل رفع الضيم عن سكان البلدة والضرب بيد من حديد كل من تسوّل له نفسه التعدي على أهلنا”.
الأهالي أعلنوها بوضوح، قبل البلدية حتى: لن ننام على ضيم بعد اليوم. هذا الكلام يشي بأن أهالي مغدوشة قد طفح كيلهم. أحد هؤلاء يتذكر جريمة بلدة طمبوريت في 2007 التي ذهب ضحيتها عنصر في قوى الأمن الداخلي، على يد احد الشباب الشيعة، ويومها لم يتم توقيف أحد. وحين أصرّ والد الضحية على تقديم دعوى زاره أحد نواب الحركة (ووزير سابق) وهمس في أذنيه: “تذكر ان لديك شاب آخر في البيت”. على هذا النسق تجري “لملمة” الأمور والإعتداءات والجرائم.
الدكتور هشام حايك آدمي ويوصف “بطبيب الفقراء”، وما حصل ستجري بلا أدنى شك، مرة جديدة، “لملمته”. وهناك كثير من الأهالي الشيعة في الجوار نددوا بما حصل وحكوا عن خصاله مرددين “العدرا والمسيح ومحمد والأئمة يحموك من كل شرّ” لكن من يحمي المسيحيين والشيعة الأوادم والسنة والدروز من الزعران الذين يستقوون على الآخرين؟ هل الأمن الذاتي بات مطلوباً؟ الأب نعمان حايك قال “مغدوشة وجوارها يستحقان عناية واهتمام خاصين. لقد تخطينا معاً مطبات وتحديات. ويبدو أن قدر اللبنانيين أن يحيوا من دون دولة تضبط المعتدين وتحمي المعتدى عليهم”.
كاهن الرعية الأب شادي دندن حاول هو أيضاً إستيعاب ما حصل “بالمحبة”: “فغداً يوم جديد يبدأ بآذان الصباح الباكر متلاقياً مع أجراس الكنائس. وما بين الصوتين يتسامح الأخوة الجيران ويغفر الأحبة”. جميل جداً هذا الكلام لكن هل “يُصرف” واقعياً؟ هل من يعبث ويسيء يسمع أصوات المحبة وصوت الآذان والكنيسة؟
أهالي عنقون يمرون من قلب مغدوشة الى بلدتهم. وحين يبدأ الأهالي بذكر الإحتكاكات التي تجري لا يعودوا يتوقفون. فمنذ أسبوعين، في عاشوراء، رأى أحد الشباب الشيعة شباباً من مغدوشة يشربون بيرة. نزل وتشاجر معهم. ويعلق أحدهم بالقول: ما علاقته بنا. نحن نشرب البيرة في منطقتنا مغدوشة وليس في عنقون. نحن لم نسأل شيعياً يوماً: لماذا تندب في عاشوراء وترتدي الأسود. فلماذا يعطي نفسه الحق بسؤالنا عما لا يعنيه؟”.
دعونا ننهي برسالة من أحد أبناء المنطقة الشيعة يدعى محمد فرحات وفيها إعتذار من المسيحيين وكلام الى بعض الشيعة، ممن “يستقوون” على الآخرين: “مغدوشة لم تتعدّ يوماً على أي مواطن من عنقون. إنها تلقت الإساءة من عنقون زمن التهجير. ومغدوشة لها فضل كبير تاريخياً في علاج الآباء والأجداد. وهي مدرسة الكوادر في عنقون. فما هكذا تكافأ الجارة الرائعة”. فهل وصلت الرسالة؟