لم يُخفِ رئيس مجلس النوّاب نبيه برّي خلال لقائه أحد الوفودَ السياسية التي زارته أخيراً حسرتَه على قدرة بعض الساسة اللبنانيين في إضاعة الفرَص التاريخية من أمام وطنهم، وكذلك من أمام أنفسهم.
ويُعطي برّي مثالاً على ذلك أنّه للمرّة الأولى في تاريخ لبنان المعاصر تسمح الظروف للّبنانيين أن ينتخبوا رئيساً بلا تدخّل خارجي، وذلك بسبب انشغال الأطراف الخارجية في نزاعاتها وهمومها ومشكلاتها. لكنّ البعض في لبنان مصِرّ على إقحام الخارج في استحقاق داخلي.
والفرصة التي سنَحت للّبنانيين مثقلة باكتشافات النفط والغاز في المياه الإقليمية اللبنانية من الشمال الى الجنوب، وهو أمرٌ كان يمكن للاستعجال في تلزيمه واستثماره أن ينقل لبنان واللبنانيين من حال الى حال.
لكن حتى الساعة ما زالت قضايا النفط والغاز تراوح مكانها، وما زال هناك تردّدٌ في إصدار المراسيم المتصلة بهذا القطاع، وها نحن نشهد انخفاضاً مريعاً في أسعار النفط بما يدفع كثيراً من الشركات المستثمرة إلى إشاحة وجهها عن لبنان، فيما تعمد إسرائيل الى سرقة النفط والغاز اللبنانيين سرّاً وعلانية.
وقضية النفط باتت اليوم الشغلَ الشاغل للعالم، فانهيار أسعاره بما يتجاوز 40 في المئة ستكون له انعكاسات مباشرة وغير مباشرة على الاقتصاد العالمي عموماً، وعلى اقتصاد بعض الدول خصوصاً.
وعلى رغم تباين التفسيرت لهذا الانخفاض بين اعتباره «مؤامرة» كبرى تقف وراءها واشنطن لإضعاف روسيا وإيران وفنزويلا والعمل لإخضاعها وإدخالها في بيت الطاعة الاميركي، يرى آخرون انّ الامر اقتصاديّ بحت يتعلق بمعادلة العرض والطلب، فحين يزيد العرض عن الطلب، كما هي حال النفط والغاز اليوم، تتراجع الاسعار ويتقدّم المضاربون للاستفادة من هذا التراجع.
المحلّلون الموضوعيون يعتقدون أنّ وراء الحفاظ على سعر النفط تداخل بين الاقتصاد والسياسة، وأنّ أيّ تفسيرأحادي لهذا الانخفاض لا يصيب كبدَ الحقيقة. فالتفاوت بين العرض والطلب لا يمكن ان يكون كبيراً الى الحد الذي يؤدّي الى انخفاض بهذه النسبة العالية.
والمؤامرة السياسية في المقابل مهما كانت محكَمة لا يمكنها وحدَها تفسير ما جرى. ويضيف هؤلاء أنّ بداية انخفاض اسعار النفط تعود الى ركود الاقتصاد العالمي عموماً، والاقتصاد الاوروبي خصوصاً، بما يؤدّي حتماً الى انخفاض الطلب على النفط، وبالتالي الى انخفاض اسعاره.
فما الذي جرى إذاً؟ عندما لاحت بوادر انخفاض الإنتاج العالمي، خصوصاً في الصين التي تراجعَت نسبة النموّ فيها من 11 إلى سبعة في المئة، علماً أنّ الاقتصاد الصيني بات الثاني عالمياً من حيث الحجم، وأنّ حجم استهلاكه للنفط والغاز مرتفع جداً، أدركَ المخططون في واشنطن أنّه يمكنهم استغلال هذا الواقع للضغط في اتّجاه مزيد من انخفاض اسعار النفط بما يؤثر تأثيراً كبيراً في الاتحاد الروسي الذي بلغَت خسائره جرّاء هذا الانخفاض أكثر من 40 مليار دولار، وكذلك على ايران التي لم تكتمل فرحتُها باستعادة جزء من اموالها المجمّدة في اتفاق فيينا الاخير حتى تلقّت ضربة موجعة جعلت من خسارتها جرّاء تدهوُر سعر النفط يفوق ما جَنَته شطارة المفاوض الايراني في فيينا من إفراج عن مليارات الدولارات الإيرانية المجمّدة.
أمّا فنزويلا فهي في أشد الحاجة الى نفطها لإنفاقه على مشاريع ذات طابع اجتماعي وتنموي، وكذلك لكي تستمرّ في لعب دور مؤثّر في اميركا الجنوبية التي طالما اعتبرَتها واشنطن حديقتَها الخلفية.
ويقرأ المحللون في الأمر الاميركي بخفضِ الأسعار ومنع خفض الإنتاج استمراراً في العقوبات ضد روسيا التي يتقدّم دورها عالمياً، وإيران التي يتقدّم دورها إقليمياً، وفنزويلا التي يتقدّم دورها في القارة الاميركية الجنوبية، وربّما يعتقد المخططون انّهم قد تمكّنوا من استنباط وسيلة ضغط فعّالة على موسكو في مفاوضات تتعلق بأوكرانيا وتمدّد الحلف الاطلسي وسوريا وغيرها. كذلك يعتقد هؤلاء أنّهم بهذا التخفيض يضغطون بشدّة على ايران في المفاوضات النووية كما في اضعاف قدرتها على دعم النظام السوري والمقاومة في لبنان.
غير أنّ محللين اقتصاديين بدأوا يتحدّثون عن الآثار السلبية لهذا الانخفاض على الاقتصاد الاميركي نفسه، وعلى اقتصادات الدوَل النفطية، ولا سيّما منها الخليجية، بما يؤدّي الى إرباك في الاقتصاد العالمي كلّه. وينشر هؤلاء المحللون في مواقع التواصل الاجتماعي، وفي مجلاّت قريبة من واشنطن، ومنها مجلة «فورين بوليسي جورنال» أنّ هذا التخفيض سيلحق نتائج كارثية بقطاع النفط الاميركي، خصوصاً بعد الاستثمارات الكبرى في النفط الصخري والرملي كطاقة بديلة والتي قيل يومَها إنّ وراء بلوغ سعر النفط ما يزيد عن مئة دولار هدفُه جعلُ الإنتاج النفطي الاميركي من الصخر والرمل مقبولاً من الناحية الاقتصادية، حيث تتراوح كلفة هذا الإنتاج بين 60 دولاراً في حدّه الأدنى ومئة دولار في حدّه الاقصى.
فبعد وصول سعر برميل النفط الى 60 دولاراً علَت الصرخة في شركات إنتاج النفط الصخري والرملي التي ستتوقّف عن الإنتاج وتصرف عشرات الالوف من العمّال لتزيد من معدّل البطالة الاميركية، ولن تقتصر الآثار السلبية لهذا التخفيض على القطاع النفطي وحده، بل ستنتقل الى سوق الأسهم المالية ذاتها التي باتت عصبَ الاقتصاد الاميركي، إذ تبلغ قيمة الاسهم المتداولة فيها ما يعادل 1.3 تريليون دولار.
ويضيف هؤلاء المحللون أنّ انخفاض أسعار النفط ستكون له إيجابياته في دولة كبرى كالصين التي بات اقتصادها مرشّحاً لأن يكون المنافس الاوّل للاقتصاد الاميركي، بل إنّ البعض يعتقد انّ الاقتصاد الصيني سيصبح الاوّل في العالم بعد سنوات قليلة، ما سيتيح للصين تسريعَ وتيرة نموّ اقتصادها، ومزاحمة الاقتصادات الغربية في عدد من الأسواق العالمية.
ويقول سياسي عربيّ مخضرم إنّ واشنطن باتت خبيرة في استخدام أسلحةٍ سرعان ما ترتدّ عليها، وكثيراً ما تحفر لخصومها حُفراً سرعان ما تقع هي وحلفاؤها فيها، فكما فرحوا في استخدام الإرهاب لإضعاف أنظمة خارجة عن هيمنتِهم باتوا يشعرون بتمدّد هذا الارهاب الى قلب معاقلهم، وقد يرتدّ سلاح النفط الى نحرِهم.
ومن هنا يعتقد محلّلون اميركيون انّ واشنطن لن تمضي طويلاً في هذه اللعبة وأنّها مضطرّة الى ان ترى سعر النفط في وقتٍ ليس ببعيد قد استقرّ ما بين 70 و75 دولاراً للبرميل، وهو في المناسبة السعر نفسُه الذي اعتمدته الحكومة الايرانية في تقديرها لمواردها النفطية لدى إعدادها موازنة 2015.
والبعض يسترسل فيقول إنّ الدول التي استُهدفت بتخفيض اسعار النفط هي دوَل قادرة على التكيف معه لأنها دوَل متقشّفة أصلاً، ومتنوّعة في قطاعات انتاجها، فيما كثيرون من حلفاء واشنطن يعتمدون كلّياً على الموارد النفطية ولا يستطيعون تحمّل هذا الانخفاض طويلاً حتى ولو كانوا يملكون احتياطيات ضخمة، فكلّ احتياط لا يزداد ينقص ويتلاشى.
فهل تنجح «حرب النفط» المضادة في تحقيق أهدافها، أم أنّها من نوع السحر الذي سرعان ما ينقلب على الساحر؟