قيل الكثير عن الايادي السعودية البيضاء في لبنان، خصوصاً في عهد خادم الحرمين الشريفين الراحل عبدالله بن عبد العزيز، وسيقال الكثير عن انجازاته السعودية وتقديماته العربية، وتطلعاته الدولية، ومبادراته الانسانية، منذ كان ولياً للعهد، وأبرزها المبادرة التي حملت اسمه للسلام مقابل الأرض، التي اطلقها في قمة بيروت العربية عام ٢٠٠٢، ثم المؤتمر الدولي لمكافحة الارهاب الذي انعقد في الرياض، وأخيراً المؤتمر الدولي لحوار الحضارات والاديان الذي رعاه في فيينا، عاصمة النمسا، والذي عكس تطلعاته نحو ابراز الاعتدال الاسلامي بأبهى وجوهه، مقترناً بأول زيارة يقوم بها ملك سعودي الى حاضرة الفاتيكان.
هذه الاعمال الكبرى والمشهودة وضعت الملك عبدالله بن عبد العزيز، في مصاف رجال الدولة العظام، لكنها لم تسلط الضوء كفاية على انسانيته وتواضعه وفروسيته المقرونة بالشهامة العربية الحقة، والتي من نماذجها، حرصه على عدم نسيان اصدقائه، وكل من قدم له خدمة، وهو في ذروة السلطة والمجد…
واقعة عايشتها شخصياً، من دون ان اكون المعني بها مباشرة… فبعد وقت قصير من اعتلاء جلالته عرش المملكة، صيف ٢٠٠٥ التقيت وزملاء قدامى الى مائدة افطار رمضاني في فندق معروف. فسألني أحدهم عن صديق قديم لي هو المفوض العام الممتاز في الشرطة عادل عبد الرحيم، الذي احيل على التقاعد، في نهاية خدمته كرئيس للشرطة السياحية بفترة الثمانينات، وانقطع الاتصال بيننا بسبب ظروف الحرب، وألح بالسؤال عن عنوانه، لأنه مطلوب منه.
قلت له، رحم الله أبا عبدالله، لقد تناهى الي انه توفي منذ عشر سنوات، أو أكثر، ولا أدري لا أين ولا كيف، قاتل الله الأحداث…
فقال السائل، أليس له أولاد؟ قلت: بلى، فهو أبو عبدالله ولعلمي انه له أكثر من إبن، فأصرّ عليّ بأن أؤمّن له عنوان أحدهم، على الأقل لأمر ضروري وحاسم!..
إلحاحه أثار فضولي، وكان دوري في السؤال والاستجواب… لماذا وماذا وكيف؟ ولم يتردّد الزميل القديم في الجواب حيث قال: هذا الرجل حظه في الجنّة، وربما حظ أولاده، طالما توفاه الله، فيوم كان رئيسا للشرطة السياحية كان يداوم في مكتب السياحة بمطار بيروت القديم، وكان الأمير عبدالله بن عبدالعزيز يتردد على لبنان، فيستقبله المفوض العام الممتاز عبدالرحيم، وكانت هذه رتبته في ذلك الوقت، بما يليق، وهو المفطور على حسن الضيافة، منذ عمل رئيساً لمكتب العلاقات العامة في قوى الأمن الداخلي، فيدعوه لتناول القهوة في مكتبه ريثما ينجز رجال الشرطة السياحية معاملاته. وهكذا نشأت بين الرجلين مودّة متبادلة واحترام على امتداد فترة زمنية ما لبثت ان انحسرت مع تفجّر الأوضاع في لبنان وانقطاع الأمير عبدالله عن بيروت، خصوصاً بعد صعوده سلّم المسؤوليات الوطنية من قيادة الحرس الوطني الى ولاية العهد فالنائب الأول لرئيس مجلس الوزراء.
وبعد ارتقائه عرش المملكة، كان أول ما فكّر به أولئك الأشخاص الذين عرفوه وخدموه وأخلصوا له، وبأصالته العربية، المؤسسة على الفروسية وجوهرها المروءة والشهامة المقرونة بالشجاعة والوفاء، بادر الى البحث عنهم وتقصّي أخبارهم وتفقّد أحوالهم، وكان من بين هؤلاء المحظوظين المفوض العام الممتاز عادل عبد الرحيم…
أمام هذا الأنموذج الإنساني النادر وجدت نفسي مجنّداً للبحث عن أبناء الصديق القديم، واستعنت يومها باللواء الصديق الصدوق اشرف ريفي وزير العدل الآن، وكان قد أصبح مديراً عاماً للأمن الداخلي، وعلى معرفة شخصية ومهنية بأبي عبدالله، الذي هو ايضاً من بلدة البترون، جارة طرابلس، وبنتيجة البحث والتحري، توصلنا الى وجود أحد أبناء الراحل في البترون وآخر في المهجر، وثالث في المملكة العربية السعودية، لكنني لم أحصل سوى رقم هاتف الإبن المقيم في المملكة العربية السعودية، وأبلغت العنوان الى طالبه، وأبلغني هذا لاحقاً، بأنه أوصل الأمانة الى من طلبها منه، عبر قنوات معينة، وهنا حطّني الجمّال… بمعنى انتهى دوري، فلا أنا علمت بما آل اليه الأمر، ولا زميلي الذي التقيته لاحقاً، أكثر من مرة…
وفي الأساس ليس لنا ان نعرف… بل يكفي ما عرفناه عن وفاء ذلك الملك القدوة وعن مروءته وتواضعه وإنسانيته وخلقه العظيم.
والخالدون ليسوا من ينجزون الأعمال العظيمة وحسب، بل الذين يشقون لمن بعدهم سبل الأعمال العظيمة.
وهذا ما بدأه السلف وهذا ما سيكمله الخلف، فالملك سلمان أمير أمراء المملكة، ونقيب نقباء الصحافة العربية كما وصفه النائب مروان حمادة، من ذات المعدن والنسيج.