لا يمكن تفسير الاعتداءات الإرهابية في الضاحية الجنوبية وباريس سوى أنّها تعبِّر عن استقواء المنظّمات الإرهابية الناتج عن ضعف المجتمع الدولي.
لا حاجة إلى التأكيد أو التدليل أنّ الإرهاب قبل الأزمة السوريّة يختلف عمّا بعد هذه الأزمة، وذلك على رغم ضخامة الضربة التي وجّهها إلى الولايات المتحدة في ١١ أيلول ٢٠٠١، إلّا أنّه لم يكن يوماً بهذا الانتشار والعلنية ويَقتطع مساحة جغرافية يقيم حكمَه عليها، خلافاً لكلّ المنطق الإرهابي المتعارَف عليه والذي يعتمد أسلوب التخفّي والعصابات، بعيداً عن النشاط والظهور العلنيَين.
فالقاعدة لم يكن لديها دولة تسيطر عليها وتحكمها بشكل مباشر، ولم تعلِن الخلافة يوماً، وتجربة طالبان في أفغانستان تختلف عن «داعش»، فضلاً عن أنّ طالبان كانت حليفة القاعدة التي تتولّى الأعمال الجهادية والإرهابية في شتّى أنحاء العالم، وبالتالي الإرهاب مع «داعش» يختلف عن القاعدة، وقد دخل معها في حقبة جديدة وأخطر من كلّ المراحل السابقة، والسبب الرئيس وراء ذلك وجود مسرح جهادي في سوريا استقطبَ كلّ المتطرّفين والمنحرفين في العالم وجذبَهم للقتال من أجل تحقيق مشروعهم ومعتقداتهم.
فالمسرح السوري تحوّلَ بهذا المعنى كالمغناطيس الجاذب للجهاديّين الذين يرون فيه المساحة التي تحقّق أحلامهم بالقتال والموت والجهاد والحكم باسم الله على طريقتهم، وأمّا التقليل من حجم هؤلاء الناس والمجموعات فليس في محلّه، إذ يكفي أن يكون هناك ٥٪ فقط من نسبة المسلمين في العالم تحملُ هذا الفكر لتكون قادرةً على ترويع العالم، لأنّها فاعلة أوّلاً، وتتّكئ على مسرح سوري خصب يمدّها بكلّ مقوّمات التعبئة والحشد والاستنهاض ثانياً.
ويخطئ كلّ مَن يعتبر أنّ مواجهة هذا الإرهاب تكون باتّخاذ كلّ دوَل العالم المزيد من الإجراءات الوقائية، خصوصاً بعدما أظهر أنّه قادر على ضرب أيّ دولة، وبعدما تبيّن أنّ الطائرة الروسية تمّ استهدافها بعبوة ناسفة مزروعة داخلها، وبعدما قدّمَ عرضَ قوّة فريد من نوعه في باريس، وبالتالي قد يؤدّي التشدّد الأمني إلى تضييق الخناق على هؤلاء الإرهابيين، ولكنّه لن يَحول دون تنفيذ عمليات مقبلة، لأنّه لن يعدم وسيلة للضرب مجدّداً، مستفيداً من حالة التعبئة الموجودة في سوريا والتي تمدّه بالدعم الأيديولوجي والديني والمعنوي والمادي.
فالمدخل لمواجهة الإرهاب «الداعشي» يبدأ بإقفال المسرح السوري، وأيّ خطوات ما دون ذلك ستبقى قاصرةً عن مكافحة هذا الإرهاب. وإقفال هذا المسرح يكون بإخراج «داعش» والنظام من سوريا، لأنّ استمرار النظام يَعني إبقاءَ الذريعة التي تستند إليها «داعش» للتعبئة مذهبياً.
وإذا كانت المواجهة مع «داعش» دخلت مرحلة جديدة بعد الهجمات الباريسية، فإنّ مسؤولية المجتمع الدولي تكمن في إزالة المشكلة والسبب في آن معاً، ومصلحة محور الممانعة تَكمن في التفاوض عن البدائل في سوريا، لأنّ الإرهاب لن يستثنيَها، والدليل ما حصَل في الضاحية، كما أنّ فكّ الاشتباك السنّي-الشيعي يبدأ برحيل الرئيس السوري، وإلّا سيبقى هذا الاشتباك قائماً، حيث لا يمكن تجاهل حقيقة أنّ النظام السوري تحوّلَ، عن خطأ أو صواب، إلى العنوان الرئيس للفتنة، ومن مصلحة الطرفين الوصول إلى التسوية التي تعطِّل هذه الفتنة.
ومن هنا، الكلام عن أنّ النظام يقاتل الإرهاب هو كلام قديم لم يعُد قابلاً للترويج، وكذلك الأمر بالنسبة إلى إنهاء «داعش» وإبقاء النظام، لأنّه سيُبقي جذور المشكلة قائمة ببُعدَيها الإرهابي والفتنوي. ولا يبدو أنّ مفاعيل أحداث باريس في ١٣ تشرين الحالي ستقلّ عن مفاعيل أحداث ١١ أيلول، حيث إنّ المجتمع الدولي اتّخذ قرارَ إنهاء الأزمة السورية بعدما لمسَ باليد أنّ الاستهتار يمكن أن يقود إلى تفجير العالم، وقد أثبتت التجربة أنّه عندما يَحسم المجتمع الدولي قراره يذهب في موقفه إلى النهاية، والتجربة الأخيرة مع النووي الإيراني أكبر دليل، وبالتالي يمكن القول بوضوح وثِقة إنّ هذه الأزمة دخلت اعتباراً من ١٣ الحالي مساراً جديداً.
وهذا المسار لا يمكن أن يلج نهاياته إلّا وفق القاعدة التي حدّدها الرئيس الأميركي نفسه: «لن نتمكّن من القضاء على تنظيم «داعش» في سوريا إلّا عند التوصّل لتسوية بشأن الأسد»، وأيّ كلام آخر يعني استمرار الحرب في سوريا، واستمرار الإرهاب في العالم.