IMLebanon

محمود طيّ أبوضرغم: عن كميل وكمال والحرب

ـ قلت لشمعون: لا اكفلك ولا اكفل جنبلاط

لثلاثة ايام خلت غاب الرئيس السابق للاركان في الجيش اللواء الركن محمود طيّ ابوضرغم. احد قلة قليلة باقية، ترحل تباعاً، حفظت الكثير من فصول تاريخ انقضى. أُعطي الرجل ــ وأعطى الجيش ــ ان يكون عند تقاطع كبار واحداث

في مثل ايام قريبة من هذه، 23 حزيران 2011، شاء اللواء الركن محمود طيّ ابوضرغم، في منزله في كليمنصو، محوطاً بلوحات رسمها ــــ وهو الرسام المحترف ــــ ان يتحدث باسهاب عن بعض حقب رافقها، من غير ان يشعره التسجيل باحراج. هو الذي يحتفظ في ادراجه بمسودة مذكرات عنونها «من زوايا الذاكرة».

كان الحدث السياسي الاخير قبل تقاعده تعيينه في الحكومة العسكرية برئاسة العماد ميشال عون عام 1988. كاللواءين نبيل قريطم ولطفي جابر، تبلغ نبأ التعيين بمكالمة هاتفية من الرئيس امين الجميل وقائد الجيش قبل صدور المرسوم عبر التلفزيون، وطلبا منه الموافقة والتعاون.

كان ابوضرغم وقريطم متقاعدين حينذاك، الا انهما ظلا عضوين في المجلس العسكري بسبب تعذّر تعيين خلفين لهما في منصبي رئيس الاركان والامين العام للمجلس الاعلى للدفاع. اجاب الرئيس بالتريّث والتفكير قبل اتخاذه القرار. كرّر الموقف نفسه لعون بعد دقائق. لم يشأ الاستقالة منها، معلناً لوسائل الاعلام انه يعتذر عن عدم تسلّم المنصب في الوقت الحاضر، آملاً في تفاهم سياسي يسابق الانقسام بين حكومتي عون والرئيس سليم الحص. آنذاك استقبل وفداً اعلامياً سورياً صحبه ضباط استخبارات سوريون بمسعى من مروان حمادة الذي قال ان الزائر صحافي سوري واحد، فاذا الوفد سبعة اشخاص معظمهم ضباط سوريون، طلبوا اجراء مقابلة تلفزيونية معه. اكتفى الوفد السوري بطرح سؤال وحيد عليه: ألا تحسب ما حصل انقلاب؟

سأل: اي انقلاب؟

قالوا: الذي قام به امين الجميل.

رد: مذ دخلت المدرسة الحربية راودني خيال انني ــــ ما ان اصبح ضابطا ــــ سأقود انقلاباً عسكرياً. بعدما تخرجت وخدمت في قطع وثكن وخبرت العمل العسكري وتقدّمت في الرتبة، صرت اكتشف ان لبنان عدو الانقلابات العسكرية. ليت في وسعنا القيام بانقلاب. عرف بلدكم في 12 عاما عشرة انقلابات عسكرية، بينما نعجز نحن في عشر سنوات عن خطوة دنيا تمهّد لانقلاب عسكري نظرا إلى طبيعة هذا البلد ومجتمعه ودستوره ونظامه وطوائفه التي تجعل منه عدواً حقيقيا للانقلابات العسكرية. شغفي بالانقلابات يجعلني متيقناً من انها مستحيلة في لبنان.

قال خدام لسلمان: سلّم لنا على صاحبك (جنبلاط) وسنركّب له خازوقاً يخرج من رأسه!

خَلفَ نديم الحكيم في رئاسة الاركان عام 1984. من كفرحيم، يوالي تقليدياً البيت الارسلاني ويقترع له ولكميل شمعون ضدّ كمال جنبلاط. عرف صغيراً شمعون في اول حملة انتخابية كان يخوضها عام 1932، عندما زار بيت جدّه، قبل ان تنتدبه قيادة الجيش بعد اكثر من اربعة عقود مستشاراً امنياً للرئيس السابق وزير الداخلية (1975 ــــ 1976)، فلزمه في مكتب مجاور لمكتبه في قصر بعبدا. على ان جنبلاط عدّه رجل عدوه اللدود.

هل اتيح له يوما عام 1976 ان يسأل شمعون لماذا وافق على دخول الجيش السوري الى لبنان؟

قال: كان الرئيس شمعون واقعياً ولم يشأ الاصطدام بالسوريين. اوحى بأنهم اتوا للمساعدة وليس لمحاربتنا، وهو ما كان يقوله له وللرئيس فرنجيه عبدالحليم خدام وحكمت الشهابي في قصر بعبدا. لكنه كان على يقين بأن هؤلاء دخلوا ولن يخرجوا بسهولة، ولا طبعاً ببروتوكول. كانت هذه مخاوف كمال جنبلاط. بعد الدخول السوري عقد اجتماعاً لاركانه العسكريين معظمهم ضباط في الجيش وقال: يقتضي ان نصبر ونطوّل بالنا. المرحلة المقبلة صعبة تتطلب اعصابا ورجولة. دخل الجيش السوري من دون ارادتنا. الآن دخل. علينا أن ننتظر لنرى كيف سيخرج؟ بيار الجميل اراد دخوله وطلب هذا الدخول، لكنه لم يسأل سوريا كيف ستخرج؟ ينبغي ان نكون دائماً على استعداد. ما حصل لا يصب في مصلحة لبنان ولا في مصلحتنا، لكنه وقع وعلينا التعاطي معه بواقعية. لا اريد ان نكون متشنجين بازاء ما حصل. بل سأنتظر وأراقب سوريا كيف ستتصرّف هنا ومعنا.

في ذلك اليوم دوّن ابوضرغم، على ورقة، كل ما ادلى به الزعيم الدرزي.

هل لعب دوراً بين زعيمي الشوف؟

قال: عندما اصبح السوريون في بيروت، طلب مني جنبلاط ان انقل رسالة الى الرئيس شمعون. قال اكيد انت ذاهب اليه. سلم عليه وقل له ان كمال جنبلاط لا يقتل مسيحيين كما يروج البعض (ردا على حادثة مقتل مسيحيين في معاصر الشوف آنذاك). انا شخصياً ادفع شهريا 68 الف ليرة لحراسة القرى المسيحية في اقليم الخروب وحمايتها. نقلت الكلام الى الرئيس شمعون وخصوصا السلام. رد: اعرف اعرف. هل تكفله لي 6 اشهر فقط فنتخذ معا موقفا يُعلّم هذا البلد كيف يُحكم. رددت: لا استطيع ان اكفلك ولا ان اكفله.

عن آخر لقاء بجنبلاط في منزل وزير الداخلية صلاح سلمان في منزله في الصنائع اسابيع قبل اغتياله: كان بالغ القلق والتوتر. ابصرت الرجل للمرة الاولى يشرب القهوة ويأكل الكاتو والشوكولا التي لم يسبق ان تناولها لحرصه على تناول العصير والدبس والتين والاعشاب. خروجه على عاداته مؤشر اضطرابه، وهو كان يشعر بأنه مستهدف. تيقنت من صواب قلقه عندما زرت مع الوزير دمشق وقابلنا خدام. بعدما استقبالنا بلطف وحدثنا ساعتين عن حبه للبنان، قال للوزير سلمان وهو يودعنا عند الباب: اخي صلاح، سلّم لنا على صاحبك، وسنركّب له خازوقا يخرج من رأسه. لم استوعب عبارة نابية في حق احد اهم رجالات لبنان، يوجه تهديداً مباشراً اليه. في طريق العودة قلت للوزير: هل يعتقدون ان في وسعهم الاعتداء على كل المقامات. في نهاية المطاف هناك مَن لا ينام على ضيم وسيدفعون الثمن لاحقاً. وهو ما حدث فعلا بعد سنوات. سأذهب الى كمال جنبلاط واخبره بما حصل. هذا كلام خصم من الخارج وليس في الداخل كي نسكت عنه. ذهبت اليه واخطرته. رد هادئاً: يا عمي انا اعرفهم. الجماعة يغدرون، لكنني مؤمن. كان يعرف انه سيقضي قتلاً. واغتيل حقاً.

ما يرويه عن تعرّض الجيش في ما مضى للانقسام: لم ينقسم مرة. ينشأ انقسامه عن مواجهات بين العسكريين وقاداتهم. لم يسبق ان حصل ذلك، ما خلا حوادث بسيطة عابرة منذ عام 1976، لم يتقاتل بعضهم مع بعض او انشق بعضهم على بعض. كان ثمة فرار. حتى في عز «تجمع حمانا» عام 1983 ابان «حرب الجبل» لم ينقسم الجيش، بل تجمّع هناك وحمى وليد جنبلاط الثكنة والعسكريين الذين ظلوا يتلقون الاوامر والرواتب من القيادة. عندما كنت رئيسا للاركان كان التجمع لا يزال قائما. كنت ازوره وأزوّده اوامر.