IMLebanon

البريد: نهاية خدمة عامة

 

لوحات زرقاء صغيرة، مستطيلة مربّعة ومستديرة، معلّقة على واجهات بعض مباني بيروت، مشار فيها بالأجنبية والعربية إلى اسمي الشارع والمنطقة ورقميهما… هذا كلّ ما تبقى من مشروع تنظيم وعنونة مناطق لبنان وتسهيل العثور على عناوين المنازل والأحياء. اخترع اللبنانيون وسائل أخرى للاستدلال. أما «الخطة الموضوعة»، فمثل اللافتات الزرقاء… «معلّقة» في الهواء. تدريجياً، اختفى «البريد» كخدمة للعموم، و«أكلت» الشركات الخاصة «الجو»

 

ترقيم الشوارع والأبنية وتسميتها ليسا أمراً شكليّاً. في دول كثيرة، يفضي ترقيم المقاطعات والمدن والشوارع والمباني، بشكل تسلسلي، إلى العنوان البريدي لكل مواطن، أو ما يعرف بـ«الرمز البريدي» الخاص الذي يختلف من بلد الى آخر. هذا الرمز الذي يجب على المرسِل تدوينه وعلى الموزّع معرفته، يتخطّى خدمة البريد. هو ضروري أيضاً للتبليغات وللظهور عبر التطبيقات الالكترونية وتحديد المواقع عبر الـGPS.

 

في لبنان لا عناوين بريدية خاصة لأي منا. هناك لوحات بأسماء الشوارع، بعضها لا يزال صامداً من أيام «الزمن الجميل». لكنها تبقى أسماء بلا عناوين ولا ترقيم ولا ترميز. ولا يزال اللبناني مضطراً لكثير من الشرح عند إرشادك إلى أي عنوان، مستعيناً بأقرب محطة بنزين أو فرن أو سوبرماركت.

 

 

مشروع عنونة الأبنية

وترقيمها بدأ أواخر الستينيات واستأنفه نحاس قبل أن يتوقف بعد خروجه من الوزارة

 

مشروع عنونة الأبنية وترقيمها بدأ «أواخر الستينيات»، بحسب الوزير السابق شربل نحاس. يومها، أُلزم مالكو المباني بوضع علب بريدية قرب لوحة الترقيم. لكن الحرب ما لبثت أن قضت على تلك الصناديق، ومعها الكثير من المباني. في ما بعد، أطلق نحاس، لدى تسلّمه حقيبة الاتصالات، خطة تستعيد مشروع الترقيم والعنونة، سيشرح عنها مطولاً، إنما الخلاصة واحدة: الخطة «واقفة» كحال البلد.

يستفيض نحاس في دور مديرية البريد أو «المديرية الأصيلة التي أنشئت حولها وزارة الاتصالات (كانت تسمى وزارة البريد والبرق). إذ لا يزال مرتب وزير الاتصالات يصرف من هذه المديرية». يسمّي وزير الاتصالات السابق الأطراف التي جرى الاتفاق معها للمباشرة بالخطة: دائرة الشؤون الجغرافية في الجيش ودائرة الإحصاء المركزي (دائرتان معنيتان بتحديد العناوين والخرائط)، بالإضافة إلى سعاة وعمال البريد المتوقفين عن العمل والذين يعرفون تفاصيل الزواريب والمناطق. ويضيف: «كان لا بد من إيجاد سبيل لعنونة المواقع وتسمية الشوارع واعتماد نظام موحد في الترقيم والترميز. تسمية الشوارع واجب على البلديات لكنها لا تقوم به. تمّ اختيار بلدتين لإجراء تجربة على الخطة وقررنا وضع أسماء وهمية. استمرّ العمل أسبوعاً ثم دبكت بين أعضاء المجلس البلدي الذين تقع على عاتقهم تسمية الشوارع بعدما اختلفوا على التسميات». توقف المشروع عقب مغادرة نحاس الوزارة، ولم يبد من خلفوه إهتماماً بالأمر.

 

ظهور «ليبان بوست»

 

خلال الحرب تعطّل البريد وفُقد التواصل، ولم تعرف كثير من «المراسيل» طريقها إلى مستلميها. في تموز 1998، استعانت الدولة بخبرات شركة SNC-Lavallin الكندية. بموجب العقد الذي كانت مدته 12 عاماً لُزّمت الشركة إعادة تشغيل البريد وتحديثه وتدريب العاملين فيه. وتضمّن العقد أيضاً إنشاء شركة تشغيل لبنانية تدار بشكل مشترك. لكن، بعد 3 سنوات، أعلنت SNC-Lavallin انسحابها من لبنان بعدما خسرت 20 مليون دولار. قررت بيع حصتها لأحد المستثمرين، وأخلت الساحة لشريكتها «ليبان بوست» التي حظيت بحصرية خدمة البريد وجمع الإيرادات مقابل تغطية كل الأراضي اللبنانية. كما لُزّمت إتمام معاملات المواطنين في العديد من الإدارات الرسمية والوزارات من دون الالتفات إلى إشكالات قانونية ترافق ذلك.

 

بيوت ذات طابع «إنساني»

 

مع الوقت، أدى حصر خدمة البريد في «ليبان بوست» إلى إقصاء المديرية العامة للبريد التابعة لوزارة الاتصالات عن مهامها. عمال البريد ممن لم تضمّهم «ليبان بوست» أو «أوجيرو» ولم يُحالوا إلى التقاعد لا يزالون يتقاضون رواتبهم من دون القيام بأي عمل، بالمئات. وهؤلاء من أراد نحاس تشغيلهم والاستفادة من خبرتهم. كما أن مكاتب ومباني وشققاً سكنية كانت تابعة لمصلحة البريد في مختلف المناطق باتت أيضاً بحكم الشاغرة. أراد نحاس استخدام هذه الخبرات والموجودات في تنفيذ خطته، «والاستفادة من مئات من موظفي البريد الذين كانوا يتقاضون رواتبهم بلا عمل، ومن مراكز عدة فارغة تابعة لمديرية البريد، ومن شقق سكنية (ملك وإيجار) كانت مخصصة لمديري مكاتب البريد (كان يجري اختيارهم من مناطق أخرى حفاظاً على خصوصيات الناس)». كثير من هذه المراكز والشقق لا يزال فارغاً، ومنها ما استعاده مالكوه.

 

(مروان طحطح)

«مبان وبيوت جميلة جداً»، يقول نحاس، لم تشغّلها «ليبان بوست». فيما وضعت «أوجيرو» يدها على عدد من مراكز الاتصال التي كانت تعرف بالسنترالات، وهي مبان ضخمة فيما السنترالات الحديثة لم تعد تتطلّب أكثر من مساحات صغيرة، ما يعني أن مساحات كبيرة منها ضمن المبنى الواحد غير مشغولة، كما توجد مبان شاغرة بالكامل». يتأسف نحاس: «ضيعانن يروحوا هيك، موجودين وين ما كان، مجهزين بحكم وصول الالياف الضوئية اليها بسرعة انترنت استثنائية. لذلك، أردنا الاستفادة من هذه المراكز في تنظيم أنشطة ثقافية مثل عرض الأفلام، وإتاحتها لعامة الناس في الأطراف مما يساعدهم في العمل من مناطقهم وعن بعد بحكم وجود الانترنت».

منذ سنوات ارتفع الإقبال على الطرود على حساب المظاريف والرسائل، بفعل الاعتماد على التكنولوجيا في المراسلات والخدمات البنكية الالكترونية وانخفاض الاشتراكات في الصحف، ما أدى إلى نشوء شركات ضخمة تمتلك مخازن حول العالم وشركات طيران خاصة، تعاقدت مع المؤسسات لتوزيع بريدها. هكذا، «انتقلت حصرية البريد من مديرية البريد لصالح تلك الشركات. وخرج البريد تدريجياً كخدمة عامة من يد الدولة، مع أن عمل هذه الشركات ليس قانونياً لأن الحصرية معقودة لليبان بوست». رغم ذلك كله، يؤكد نحاس: «مشكلة العنوان بقيت عالقة لدينا». ولا يبدو أنها ستحل قريباً. أما علب البريد التي نشاهدها في الأفلام فلا يبدو أننا سنحظى بشرف مجاورتها. إذ لم تعد الحاجة إليها ملحّة كما في الماضي.

 

جبيل وطرابلس سبّاقتان

 

نفّذت بلدية جبيل مشروع عنونة الشوارع واعتمدت تطبيقا الكترونياً يساعد في العثور على اي نقطة ضمن المدينة. وفي طرابلس، بدأ مشروع عنونة المباني وترقيمها قبل اشهر، بمساهمة وتمويل خارجيين. عدا ذلك لا توجد مدينة او بلدة في لبنان تتبع الترقيم والعنونة على كافة شوارعها ومبانيها، بمعنى أنه لا يمكن الوصول الى أي عنوان فيها بسهولة أو عبر التطبيقات الحديثة. الأمر أيضاً ينسحب على توصيلات الديليفري وجباية الفواتير وتبليغات المخالفات وسواها.

 

البلدية: عالوعد يا «بيروت»

 

أكدت بلدية بيروت العام الماضي «الانتهاء» من درس مشروع إشارات السير التوجيهية والإرشادية وتسمية الشوارع وترقيم الأبنية وتحضير دفتر الشروط. وأعلنت أن التنفيذ سيبدأ قبل نهاية السنة الجارية، بكلفة تصل الى 200 مليار ليرة.