عادت عجلة العمل الحكومي الى الدوران بعد توقف دام ما يزيد عن الشهر بسبب أزمة استقالة الرئيس الحريري والتي أنتجت التسوية الثانية, والتي يفترض أنها ملزمة لجميع الأطراف بالنأي بلبنان عن أزمات المنطقة وحروبها بالفعل وليس القول فقط كما درجت العادة. وقد رافق هذه العودة مؤتمر دعم لبنان في باريس من جهة، حيث أكدت الدول الصديقة دعمها استقرار الوطن الصغير الأمني والاقتصادي وتحييده عن النيران المحيطة به واستعدادها لتقديم كل ما يلزم في هذه المرحلة الحرجة، ومن جهة اخرى على الحدود الجنوبية كان استعراض لجولة قام بها قائد المليشيا العراقية قيس الخزعلي برفقة قياديين من حزب الله يشكل رسالة مناقضة للتسوية والالتزام بالتهدئة المتفق عليه، وهو رسالة إيرانية بامتياز للبنان . وبعض النظر عما اذا كانت الرسائل موجهة للداخل ام الخارج، فان المعادلة التي لا يزال بعض الافرقاء يرفضونها هي ان لبنان لم يعد يحتمل ان يكون صندوقة بريد، وأن المناورات لتحقيق مكاسب إقليمية على حساب الداخل لم تعد مقبولة، والمشهدية التي رافقت سنوات تولي الرئيس الشهيد رئاسة الحكومة حيث كانت السياسة المتبعة من الخصوم افراغ الإنجازات الاقتصادية وتنفيس الدعم الدولي الذي كان يتمتع به عبر خطوات استفزازية في الداخل حيناً وسياسات كيدية احياناً لتعطيل مسيرة التقدم أرهقت الشعب اللبناني بكل فئاته وانتماءاته.
ان التاريخ ملّ ان يعيد نفسه، وقد اثبتت التجربة الاخيرة ، ان تحدي الإرادة الدولية المحقة بالانسحاب من ساحات الآخرين حماية لساحتنا الضعيفة أصلا ، دفع بالوطن كله نحو شفير الهاوية … ان ممارسة الازدواجية في رسم الخطوط العريضة لم يعد ممكنا بعدما بات الجميع في سفينة واحدة، وتمثلت كل الأطراف في حكومة شراكة وتم التوافق العلني على الالتزام بالنأي بالنفس ، وبالتالي لا العهد قادر على تحمل تبعات زج البلاد بحروب الآخرين ولا البيئة الشعبية قادرة ان تكون حاضنة لمغامرات باهظة الاثمان!
ان المرحلة المقبلة غاية في الدقة بعدما باتت المواجهة الغربية مع ايران تأخذ منحى تصاعدياً وتحشد أصواتاً متزايدة لوضع حد للتدخل الإيراني في شؤون دول المنطقة ودعمها للجماعات الإرهابية لزعزعة الاستقرار، فبعد الولايات المتحدة التي هدد رئيسها بإعادة النظر بالاتفاق النووي، تبدلت لهجة ماكرون الهادئة الى مباشرة لإدانة الدور الايراني بعدما كان يلعب الدور الوسطي بين ايران وأميركا، وذلك على خلفية تقارير قدمتها الامم المتحدة حول العمليات التي يقوم بها قائد الحرس الثوري في كل من العراق وسوريا واليمن، وبالتالي فان المواجهة ستكون في اكثر من ساحة حيث الوجود الإيراني فاعلاً، فهل سينجح حزب الله بتحييد لبنان وإقامة التوازن الدقيق بين مصلحة الحليف من جهة ولبنان من جهة اخرى ام ان الالتزام الإقليمي يغلب على الوطني؟ وفي هذه الحالة، تسقط كل الحسابات الشخصية بين الحلفاء والخصوم ، بين من جمعتهم القضية وفرقتهم السياسة والعكس صحيح، ليقفوا جميعا صفا واحدا في مواجهة الاخطار الداهمة من كل حدب وصوب، تحت لواء الواجب الوطني في وقفة يشهد لها التاريخ لانه في حال انجرارهم لتصفية الحسابات في ما بينهم وانصياعهم للكيديات والمزايدات، يخسروا الوطن وما يحمل من خيرات معنوية ومادية على حد سواء، وعندها لا تنفع صفقة من هنا ولا انتخابات من هناك! انها مرحلة وجودية بامتياز، فهل نكون فيها ام ان للتفرقة والاحقاد الكلمة الفصل؟!