بعكس ما يشيعه البعض عن ظلم لاحق بالمرشحين جراء رميهم في سلة النواب نفسها، أتى استطلاع المرحلة الثانية من اختيار التيار الوطني الحر لمرشحيه ليثبت أن الرأي العام لا يوالي «عالعمياني»، بل يعتمد معايير جدية في تفضيله هذا المرشح أو النائب على سواه
ما يشاع عن أن نواب التيار الوطني الحر يتفوقون على غيرهم من المرشحين العونيين لم يعد صحيحاً بعد استطلاع الرأي الذي نفذه التيار الوطني الحر، أو ما يسمى المرحلة الثانية من اختيار المرشحين الى الانتخابات النيابية.
ففي جزين، مثلاً، تفوّق المرشح (الحزبي منذ ما لا يزيد على عامين، والنائب منذ ستة أشهر) أمل أبو زيد على النائب (منذ أكثر من 7 سنوات) زياد أسود وأحد أفراد الرعيل الأول في التيار (80.50% للأول و72.30% للثاني).
يؤشر ذلك الى أن النجاح في الاستطلاع ليس بحاجة الى مقعد نيابي، بل الى حضور في القضاء وتعزيز الخدمات، وأن فوز النواب بالأقضية ليس ترفاً، بل نتيجة عمل متواصل على الأرض وبين الناخبين. كما تؤكد النتائج أن التنقل من شاشة الى أخرى وتغذية الخطاب الطائفي قد يلقيان وقعاً على الصفحات الافتراضية. إلا أنه عند الجدّ، يزين الناخب خياراته جيداً ويرفض ما يمثله المرشح ناجي حايك في جبيل، رغم كل الدعم الإعلامي والسياسي المؤمن له من التيار الوطني الحر. اقتصار رصيد حايك على 17% رسالة شعبية عن رفض أفكاره وآرائه وعدم تقبّل الرأي العام له، مقابل تأييده واقعية النائب سيمون أبي رميا السياسية وعمله الخدماتي المتواصل، رغم المعركة الحزبية الشرسة التي افتعلت في المرحلة الأولى لإسقاط أبي رميا وتحجيمه. والأهم أن الناخب لم يخيّر بين أبي رميا والحايك، فاختار الأول (60.10%) على الثاني، بل كان بإمكانه تسمية الاثنين باعتبار أن لجبيل مقعدين مارونيين، لكنه آثر رفض الحايك والاقتراع فقط لأبي رميا بنسبة توازي خمسة أضعاف رصيد الأول. كما كان لافتاً أن الدكتور بسام الهاشم الغائب عن الساحة السياسية والخدماتية والإعلامية وغير المقرب من القيادة الحزبية نال 16% وكاد يعادل الحايك، علماً بأن الهاشم طعن في النتائج الانتخابية أخيراً.
قد يكون الاستطلاع مقياساً شعبياً أولياً لمزاج الناخبين. إلا أنه ميزان حقيقي لمعرفة حضور المرشحين بين الناس. ففي عاليه مثلاً، مرشح عن المقعد الماروني يدعى سيزار بو خليل (60.93%) تمكن، بعكس الحايك، من استثمار ما أعطاه التيار له لخدمة أهالي عاليه، رغم أنه لم يعط الفسحة الإعلامية نفسها التي نالها الحايك. وفي الشوف، أتت نتيجة المرشح الكاثوليكي غسان عطاالله (48.60%) من بلدة لا يتعدى ناخبيها 200 صوت، لتؤكد أن الناخبين يفضلون المرشح الشاب الموجود بينهم والحاضر لخدمتهم، ولا يكترثون للألقاب و»العراضات الإعلامية». بينما لم يكن مفاجئاً حصول المرشح عن المقعد السني طارق الخطيب على نسبة 36.70% لكونه يشغل منصب رئيس بلدية حصروت منذ 18 عاماً وكون عائلته تعدّ نحو 7000 صوت في الشوف.
اقتصار رصيد ناجي حايك على 17% رسالة شعبية مضمونها رفض أفكاره وآرائه وتمثيله لجبيل
يذهب البعض في قراءتهم لنتيجة الاستطلاع الى التمسك بمقولة أن وضع المرشحين جنباً الى جنب النواب، يعدّ ظلماً للمرشحين الذين لم يحظوا بفرصة النواب. إلا أن أكثر الأنظمة ديموقراطية في طريقة الاقتراع تعتمد الأسلوب نفسه، ويفترض بالطامح الى النيابة أن يفرض حضوره بمعزل عن أي لقب أو حجة للظهور الإعلامي. وفعلياً، لو لم يجهد النواب لتزييت ماكيناتهم باستمرار وتوسل خدمات هذه الوزارة أو تلك لما استطاعوا الحفاظ على رصيدهم الشعبي. ففي بعبدا مثلاً، أعاد الناخبون الاقتراع للنواب الثلاثة أنفسهم مع تمييز بشكل واضح لمصلحة النائب آلان عون الذي نال النسبة الأعلى (67.81%)، فيما تساوى النائبان ناجي غاريوس وحكمت ديب تقريباً. وهو ما يؤكد أن بعض الناخبين آثروا تسمية عون فقط دون الباقين، ولم يقترعوا بشكل آلي في وقت كان يمكنهم اختيار الأسماء الثلاثة على السواء. وفي المتن الشمالي، أثبت النائب ابراهيم كنعان مرة أخرى أنه الرقم الصعب في القضاء بعدما تصدر قائمة الفائزين في المرحلة الأولى، وأول الفائزين عن المقعد الماروني في المرحلة الثانية بفارق نحو 30 نقطة عن ثاني الفائزين، رغم أن اللائحة تتسع لأربعة مرشحين. والاستثناء هذا كان متوقعاً في ظل الدور الذي لعبه كنعان أخيراً بين التيار وحزب القوات والدور التشريعي الذي يلعبه في المجلس النيابي وموازنته بين نشاطه السياسي والتشريعي وبين تثبيت حضوره خدماتياً واجتماعياً في القضاء.
على المقلب الآخر، يجدر التوقف عند نتيجة النائب نبيل نقولا الذي حلّ ثانياً بنسبة 38.40%، رغم تخوينه عقب الانتخابات البلدية ورغم كل التحريض المتني عليه من المتنافسين على مقعده. وحلّ طانيوس حبيقة ثالثاً بنتيجة 22.66%، ما يعدّ خرقاً جدياً في هذا القضاء المسيس. فحبيقة ليس نائباً أو وزيراً أو متمولاً، بل مجرد شاب عوني يحظى بشعبية بين رفاقه وشغل لفترة منصب منسق هيئة قضاء المتن. كما قال المتن كلمته في ما خص رجل الأعمال ابراهيم الملاح، المقرب من رئيس التيار جبران باسيل، فحلّ في آخر القائمة بنسبة 16.32%، الأمر الذي يعدّ رفضاً له لتغيبه عن القضاء خدماتياً وعبر عدد لا يستهان به من الشركات التجارية في القضاء وخارجه. أما كاثوليكياً، فكانت المفاجأة بالرقم العالي الذي حققه المرشح إدي معلوف 34,98%، فحجز لنفسه المقعد الكاثوليكي على اللائحة العونية المفترضة بعدما تفوق على منافسه عن المقعد نفسه شارل جزرا. والأهم أنه كرّس نفسه مرشحاً جدّياً، مسقطاً مقولة تبني ترشيحه كوريث عن عمه النائب إدغار معلوف.
ومن المتن الشمالي الى كسروان، حيث جاءت النتائج المتدنّية لمصلحة المرشحين الخمسة الأوائل (لم يترشح نواب كسروان لعدم حيازتهم بطاقة حزبية) لتظهر سوء تحضير هؤلاء للمعركة، رغم أن معظمهم مرشح محتمل منذ أكثر من 8 أعوام. واللافت أن نسبة تسمية المتنافسين السبعة مجتمعين بالكاد بلغت عتبة الخمسين في المئة، ما يفرض عليهم إعادة النظر بكل مسيرتهم والبحث في أسباب رفض الكسروانيين لهم وتفضيلهم الـ”لا أحد” عليهم. وفي الإجمال، أثبت التيار الوطني الحر في المرحلتين الأولى والثانية لاختيار المرشحين ديموقراطية فعلية لحزب لا يزال حديث الولادة، إلا في حال نسف التيار كل ما بناه خلال المرحلة الثالثة بسماحه لمرشحين غير مطابقين للمواصفات المطلوبة بركوب اللائحة تحت ألف حجة وحجة.