«وثيقة الإخوّة الإنسانية» التي وقّعها في أبو ظبي البابا فرنسيس والشيخ أحمد الطيب، رسالة مسيحية وإسلامية تخاطب أتباع الديانتين لتركّز على القاسم المشترك الإيماني والإنساني، وتحاول غسل أيدي القيّمين على الدينين مما يُرتكب من آثام، وأحدثها أعمال تنظيمي «داعش» و «النصرة». وإذا كان من فائدة لهذه الوثيقة فهي المزيد من تطهير الإيمان من الجرائم التي تُرتكب باسم الدين. وهذا يتطلب عملاً مستمراً لإبعاد الإيمان عن تناقضات المصالح التي تؤدي إلى حروب.
ولا تكفي وثيقة بين ممثلي الإسلام والمسيحية لتأكيد السلام. إنما تؤشر إلى إبعاد الدين، بما هو إيمان، عن تناقضات المصالح الدنيوية بين القيادات حيناً وبين الشعوب أحياناً. وهذه الوثيقة تؤكد طهارة الدين من الآثام التي تُرتكب باسمه وتستغل الروحانيات في شحن النفوس باتجاه إلغاء الآخر أو قتله باعتبارهما طريقاً إلى حفظ الذات، علماً أن الإنسانية في تاريخها لم تشهد سيادة دين واحد، وكان الناس ولا يزالون يتنوعون في شؤون العبادة والروحانيات، وهو أمر منطقي يرتبط بثقافات وبيئات وتجارب اجتماعية واقتصادية تؤدي إلى تغليب انتماء ديني على آخر. وفي هذا المعنى يبدو الانتماء الجماعي إلى دين معيّن مختلفاً عن الانتماء الفردي الذي يميّز النُّخب.
«وثيقة الأخوّة الإنسانية» تقتضي متابعة يومية من الأزهر والفاتيكان لنزع الصفة الدينية الروحانية عن معارك شبه يومية ترفع الدين شعاراً. وهذه المتابعة تعيد الحروب إلى أسبابها الحقيقية وتنزع عنها ثوب الدين، بل إن مثل هذا الجهد، إذا أحسن الفاتيكان والأزهر القيام به، يؤدي إلى حفظ أرواح ومصالح أقليات إسلامية ومسيحية في غير مكان من عالمنا تتعرض لعزل أو انتقام بسبب شعارات دينية رفعها مقاتلون في أماكن بعيدة.
ويلاحَظ في العقدين الأخيرين إضفاء الشعار الإسلامي على تنظيمات عسكرية ترفض الآخر وتقاتله إذا لم يتخلّ عن عقيدته وينضم إليها، وهذا يؤدي إلى تديين الصراعات ونقلها من مجال السلطات والمصالح إلى مجال لاهوتي يفرضه قادة يرفعون الدين شعاراً، ويضفون على حروبهم قداسة تغطي الطبيعة المادية التي تقوم عليها تلك الحروب.
إذا لم يستطع الأزهر والفاتيكان إبعاد الإسلام (والمسلمين) والمسيحية (والمسيحيين) عن حروب يخوضها في هذه المرحلة «داعش» و «القاعدة» وغيرهما من التنظيمات المتطرفة، وإذا لم يستطيعا القيام بمهمة التوضيح والتفريق هذه، فإن الحق سيظل ملتصقاً بالباطل بفعل فاعل، وسيؤدي رفع شعار الإسلام والمسيحية على حروب دموية طويلة الأمد إلى تراجع في مستوى البشر فكراً وعيشاً، كما إلى وصول عدوى هذه الحروب المسمّاة دينية إلى أتباع أديان أخرى، وهنا نستحضر إصرار «طالبان» على نسف تماثيل بوذا التاريخية في منطقة باميان الأفغانية، وما أدى إليه من انضمام المتديّنين البوذيين إلى صفوف أعداء الإسلام والمسلمين بعدما كانوا يحيِّدون أنفسهم، خصوصاً في شبه القارة الهندية في ثلاثينات وأربعينات القرن الماضي، حين أدى الصراع إلى تفتيت المنطقة إلى دولتين، الهند بغلبة هندوسية، وباكستان بشقيها الشرقي والغربي بغلبة إسلامية.
إن عملاً إسلامياً مسيحياً لتطهير الدين، بما هو عبادة وشأن روحي، من حروب قائمة على المصالح، والنجاح في هذا العمل، وصولاً إلى إدخال قيادات دينية هندوسية وبوذية ويهودية (مع أديان أخرى لا تُحصى في الشرق الأقصى) في جهد إبعاد الروحانية الدينية عن المصالح الدنيوية وحروبها التي لا تنتهي… كل هذا يشكّل جهداً لا بد منه لحماية النزعة الإيمانية لدى الإنسان إلى أي دين انتمى، وحماية المصالح من حروب لا تنتهي لكونها التصقت بنزعة دينية حادة ترفض الآخر وتنظر إلى الأمر من باب أن حياة طرف لا تقوم إلاّ بموت الطرف الآخر.
«وثيقة» شيخ الأزهر والبابا إعلان لجهد يتطلب مواصلةً وامتداداً إلى أنحاء عدة من العالم المتنوّع الذي نعيش فيه.