في شباط عام 2014، قضى الترتيب السعودي ــ الايراني بتشكيل حكومة الرئيس تمام سلام بمباركة إقليمية ودولية. واستشعاراً بالشغور المقبل في رئاسة الجمهورية، كان التأليف بمثابة الحاجة الضرورية لتعبئة مرحلة الفراغ الرئاسي وحفظ الاستقرار في حدّه الأدنى، فلا يرتبط لبنان كلياً بالحرب السورية وتداعياتها. بعد 25 أيار 2014، أي بعد انتهاء ولاية الرئيس ميشال سليمان، أكملت الحكومة مهمتها التي أنشئت من أجلها، وتمكن رئيس تكتل التغيير والاصلاح العماد ميشال عون من تحقيق إنجاز فيها، بفرض الحصول على توافق جميع الوزراء لصدور قراراتها.
تدريجاً، صارت الحكومة تتآكل من الداخل، وباتت مهددة بانفراط عقدها عند أي لحظة احتكاك، الامر الذي منعته الرعاية الاقليمية والدولية لها. وبدت الحاجة الى هذه الحكومة خارجية بقدر ما هي لبنانية، لذا تدخل، عند أول صراع جدي هدد حياتها، من يدعم ترتيب العلاقة السعودية ــ الايرانية عبر لبنان، لفتح قناة اتصال حوارية بين حزب الله والمستقبل. فبات هذا الحوار خطاً متوازياً للحكومة التي أنشئت تحت سقف الصراع السني ــ الشيعي ووأداً للفتنة بين الطرفين.
لأول مرة منذ تأليف الحكومة، وعلى مشارف سنة من عمر الشغور الرئاسي، يصبح التهديد باستمرار الحكومة جدياً، على يد العماد عون، عبر ملف التعيينات الامنية. ورغم أن المؤتمر الصحافي الاخير لعون والمبادرة التي أطلقها، أوحيا بأنه خفض السقف الذي رسمه بمطالبته بتعيين قائد جديد للجيش خلفاً للعماد جان قهوجي، فإن العارفين بعون يجزمون بأن خياره نهائي ولا عودة عنه. ما فعله عون هو أنه أعطى مزيداً من الوقت وأفسح المجال أكثر للاتصالات، ولا علاقة لقراره بالتراجع عن موقفه أو بسحب مقترحاته، بل يرتبط بالمخاطر الامنية والعسكرية على الحدود الشرقية. يعي عون تماماً أن ما يجري هناك مصيري وحساس وخطر، وأمامه متّسع من الوقت لاستكمال عدة الضغط في معركة تغيير قائد الجيش، وهي معركة لا ترتبط حكماً بمصير المدير العام لقوى الامن الداخلي اللواء إبراهيم بصبوص، رغم محاولات أكثر من فريق سياسي الربط بينهما، ولا سيما من الذين يدعمون التمديد لقهوجي وبصبوص معاً.
والفرصة التي منحها عون أتت بعد اجتماعه مع الامين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله، وهو اللقاء الذي وضع معادلة جديدة تتعلق بوضع قائد الجيش، إذ كان الخيار قبل اللقاء ينحصر في أمرين: إما تمديد وإما فراغ في قيادة الجيش. لكن المعادلة تغيّرت لتصبح ثلاثية بعدما دخل على الخط، وللمرة الاولى، عامل التعيين في شكل جدي، وبدأت القوى السياسية تتعاطى معه بوصفه خياراً مطروحاً على الطاولة، بعدما كان مطلب عون وحده.
لكن عون يأخذ وقته كي تنضج طبخة التعيين، وهو يدرك تماماً، بحسب مصدر سياسي مطّلع، أن رعاة تأليف الحكومة الاقليميين والدوليين حريصون على بقائها اليوم، تماماً كما كانت الحال قبل عام من الآن، وهم على ثقة بأن قراره تعطيلها محسوم ولو بآليات مختلفة، وأنه من أجل الحفاظ عليها وعلى ترتيب التوافق الايراني ــ السعودي قد يكون مطلوباً تسهيل تعيين قائد للجيش.
ما تحقق حتى الآن، بحسب المصدر، أن مستوى معركة قيادة الجيش ارتفع الى مستوى المعركة على رئاسة الجمهورية. فمعركة قيادة الجيش لا تشبه بظروفها معركة التمديد الاولى التي حصلت في عهد الرئيس ميشال سليمان، إذ أصبح هذا الملف إقليمياً ودولياً وموجوداً على طاولة القوى المعنية خارجياً، تماماً كما ملف رئاسة الجمهورية، رغم أن خيار حله ليس شائكاً بقدر ما هو حل ملف الرئاسة، وهو الأمر الذي يمكن معه لعون أن ينفذ بمطلبه.
وعامل الوقت الذي يراهن عليه معارضو عون كي يتراجع عن مطلبه، كما حصل سابقاً، لن يصح هذه المرة، لأن مطلبه لن يتغير، كما لن يتبدل رفضه طرح ثلاثة أسماء مرشحين بدلاء لقهوجي. يصرّ عون على مرشحه، وهو يخوض معركة متعددة الاطراف مع قهوجي والمستقبل وكل من يدعم التمديد له، ويخوض مواجهة مكشوفة مع سليمان الذي لا يزال ظله في الحكومة ويملك “التوقيع” الضروري للتمديد عبر وزير الدفاع سمير مقبل. من هنا فإن كل كلام عن حسم مبكر للتمديد يبدو في غير محله.
في المقابل، فإن ما بدأت تسفر عنه هذه المعركة حتى الآن من آثار سلبية، فيما تستمر المواجهة السياسية على قيادة الجيش، بدأ يوثر فعلياً في المؤسسة العسكرية، مع إطالة عمر الازمة، وينتج أضراراً كبيرة تتجلى في عدد من النقاط الحساسة:
الاولى هي وضع الوحدات العسكرية، إذ ليس سهلاً أن يقع الجيش تحت ضغط سياسي وعسكري. وهذا الامر لا علاقة له بقائد الجيش وحده، بل أيضاً بالضباط والافراد المنتشرين في بقع التوتر الامني. وليس تفصيلاً ما قاله السيد نصرالله في إطلالته الاخيرة حول الجيش والحدود اللبنانية السورية وعرسال، ولا ما قاله لاحقاً الوزير جبران باسيل حينما أعاد فتح ملف عرسال ومعركة آب عام 2014. اليوم تعيد جميع القوى السياسية فتح حساباتها مع الجيش، كل من زاويته، تماماً كما يفعل تيار المستقبل منذ أشهر. وهو من شأنه في ظل المخاطر الحدودية أن يضاعف الضغط على الوحدات العسكرية وهيكلية انتشارها وعملها، ما يجعلها تتأثر بكل الحملات والنقاش المفتوح على غاربه داخل الجيش.
النقطة الثانية هي أن المعركة السياسية تأتي في زمن متغيرات جذرية داخل الجيش، إذ يتبدل قادة الالوية ومديرو المخابرات الفرعيون، ويستعد مدير المخابرات العميد إدمون فاضل لمغادرة منصبه، قبل الحديث عن رئيس الاركان وقائد الجيش نفسه. كل ذلك يمكن أن يخضع لمعايير يجري التداول فيها حالياً ويحدث متغيرات ستكون متأثرة بالواقع السياسي الذي يعيشه الجيش.
النقطة الثالثة: ما إن أصبح احتمال تعيين قائد جديد للجيش خياراً ثالثاً على الطاولة، حتى بدأ عدد من الضباط الذين يعتبرون أنفسهم معنيين بالوصول الى هذا المركز، حملة انتخابية ولقاءات سياسية لجمع أصوات على شكل “لوبي” للتسويق والترويج. وهو أمر ندر حدوثه في المؤسسة العسكرية، ويمكن أن يرتد على وضعية الضباط المعنيين وغير المعنيين عند جلاء الصورة كاملة من الآن حتى أيلول المقبل.