حتى الآن تبدو الهدنة صامدة في سوريا. الإجراءات التي أحاطت بالإعلان عن بدء الهدنة إنفاذاً للاتفاق الأميركي – الروسي تؤشّر إلى جدية أكبر من تلك التي واكبت الهدنة السابقة. ما يعني أنّ كلّاً من واشنطن وموسكو تعوّلان على وقف إطلاق نار دائم وناجح ما يسمَح بوضع إطار لبداية حلٍّ سياسي قبل نهاية هذا العام، وتحديداً قبل فتح صناديق الاقتراع الأميركية.
الولايات المتحدة الاميركية وروسيا تعتقدان أنّ التعب أصاب كلّ الاطراف المتحاربة في سوريا، ولو بنسب متفاوتة، وأنّ الجميع بات ينشد ضمناً التسوية السياسية ولو من دون الإفصاح عن ذلك خشية تراجع موقفهم التفاوضي وانعكاس ذلك سلباً على ورقة التسويات.
لكن، وعلى رغم القوة الدافعة الكبيرة للاتفاق الاميركي – الروسي حول سوريا، فإنّ الواقعية السياسية والتجارب التاريخية الكثيرة في الشرق الاوسط تستوجب الإقرار بأنّ القوى الإقليمية تستطيع في أحيان كثيرة وظروف معيّنة التخريب على اتفاق القوى الدولية الكبرى، قد نكون الآن أمام حال مماثلة.
وليس سراً أنّ الديبلوماسية الأميركية تحاول التركيز على المواقف الصادرة من إيران منذ الإعلان عن قرب التوصل لاتفاق هدنة في سوريا. صحيح أنّ إيران أعلنت في وقت لاحق ترحيبها بالهدنة لكنّ المؤشرات السلبية لا تزال موجودة، إذ تتقن إيران فنّ إرسال الإشارات المتناقضة.
فالتصعيد المجنون في التراشق بين إيران والسعودية والذي بلغ حداً بعيداً جداً إنما يؤشر إلى تصاعد المواجهة والحرب بينهما لا العكس.
وكان لافتاً المقال الذي كتبه وزير خارجية إيران عبر صفحات «نيويورك تايمز»، والذي تضمّن هجوماً عنيفاً على السعودية والوهابية. مسألة لا بدّ من التوقف عندها وتبيان خلفياتها خصوصاً أنّ محمد جواد ظريف هو من الفريق الإصلاحي والصحيفة تُعتبر أحد أهمّ أعمدة السياسة الإعلامية الأميركية.
صحيح أنّ اليمن هو ساحة المواجهة الأقرب والأكثر وجعاً، لكنّ للساحة السورية خصائصها الكبيرة والبليغة. الهدنة مستمرة لكنّ البعض يرى فيها فرصة لتعزيز القدرات العسكرية ومتطلبات الميدان لا مرحلة تحضيرية لولوج باب التسوية السياسية.
في الكواليس كلام بأنّ إيران لا تريد أن تسمع بأيّ شكل من أشكال التسويات السياسية في سوريا قبل اتضاح هوية الرئيس الجديد للولايات المتحدة الأميركية، والذي سيحتاج الى أشهر عدة لتركيز إدارته الجديدة، ما يعني أنّ بدء مفاوضات جدّية حول سوريا والشرق الأوسط في حال وصول هيلاري كلينتون قد لا يبدأ قبل الربيع المقبل.
أما في حال وصول دونالد ترامب، فإنّ إيران ستنكفئ سياسياً وستضاعف من وضعيّتها العسكرية متّكئة على تقارب مع المتضرّرين من ترامب، وعلى رأسهم روسيا والصين. لذلك، قد ترى إيران في الهدنة مساحة زمنية لتعزيز الوضع الميداني في سوريا، لا فرصة جدّية لولوج باب التسوية السياسية.
في السادس والعشرين من الشهر الجاري، يترقب الجميع المناظرة التلفزيونية الأولى بين ترامب وكلينتون في وقت لا يبدو فيه الفارق بعيداً كما كان منذ اسابيع.
في هذه اللحظة أبرمت الإدارة الأميركية الاتفاق العسكري الأميركي – الإسرائيلي الأضخم على الإطلاق والبالغ 38 مليار دولار على عشر سنوات.
صحيح أنّ الاتفاق لحظ شرط الكونغرس بعدم إضافة أيّ مساعدات أخرى خلال هذه السنوات العشر، لكنّ التجارب السابقة تُظهر أنّ ذلك ممكن من خلال أساليب ملتوية.
المهم أنّ الاتفاق جاء في هذا التوقيت ليضمن أكثر التأثير الكبير للوبي اليهودي الى جانب الحزب الديموقراطي. لكن من البساطة التوقف فقط عند هذا الدافع. فأخيراً ألغى رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو لقاءً مع رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس في موسكو قبل أن يعود ويقول إنّ اللقاء قائم وسيحدَّد لاحقاً.
ولم يعد سرّاً أنّ المشروع الأميركي – الروسي يلحظ تسوية في سوريا على أن يليها فوراً دفعاً للملف الإسرائيلي وإنجاز تسوية مع الفلسطينيين وسوريا ومن ثم بقية الدول العربية.
وهذا ما سيطرح واقعاً جيوسياسياً جديداً في الشرق الأوسط، وهو ما تحسب له طهران جدياً انطلاقاً من الحرب الدائرة في سوريا.
وتأتي الصفقة العسكرية الأميركية- الإسرائيلية بمثابة الضمانة الأمنية لإسرائيل لقاء ولوجها باب التسوية السياسية.
وفي الداخل الإسرائيلي تعارض واضح ومعلن بين وزير الدفاع افيغدور ليبرمان ونتنياهو.
ليبرمان يطالب باستغلال الظرف التاريخي الذي يمرّ به الشرق الأوسط والعمل على تنفيذ ترانسفير لفلسطينيّي الداخل ونقلهم من كنف الكيان الإسرائيلي الى الدولة الفلسطينية المزمع إقامتها، لكنّ نتنياهو رفض هذا الطرح في المطلق.
هذا السجال الإسرائيلي الداخلي ليس سجالاً عادياً، وهو يعكس المدى الذي وصلت اليه مفاوضات الكواليس حول تسوية إسرائيلية- عربية ستلي فوراً التسوية السورية.
وعلى خطٍّ مواز، فإنّ وزير الدفاع السابق موشي يعالون الذي كان قد استقال في أيار الماضي، يزور الولايات المتحدة الأميركية الآن وخلال إحدى محاضراته في واشنطن استعرض التحديات التي تُهدّد أمن إسرائيل حالياً انطلاقاً من العراق وسوريا ولبنان، وسلّط الضوء على كيفية مواجهة
ما اعتبره خرقاً للمخابرات الأردنية.
واضحٌ أنّ النقاش الإسرائيلي يتمحور حول مرحلة ما بعد سوريا أو بتعبير أكثر دقة مرحلة التسوية الإسرائيلية – العربية.
إنطلاقاً من مجمل هذه الصورة، تبدو إيران في موقع المعارض للهدنة في سوريا، ولكن وفق أسلوبها الذي اشتهرت به.
وهي تعوّل ربما على سقوط الخيارات المعتدلة واستلام الصقور زمام السلطة. ترامب في واشنطن، وفي طهران سقوط الشيخ حسن روحاني، فيما الصقر الروسي فلاديمير بوتين يمسك بكلّ مفاتيح السلطة في بلاده، والصقر التركي رجب طيب أردوغان يُعزّز سلطته التي تكاد تصبح مطلقة، أما في إسرائيل فيستمر صقور الليكود.
وفي السياق، يعقّب ديبلوماسي أوروبي مبتسماً: كلّ هذه المخاوف صحيحة، لكنّ الصقور في أحيان كثيرة هم مَن ينجزون التسويات، وفي حال سلوك الأمور هذا الدرب قد تمرّ مرحلة عنيفة لكنها لن تلبث وترسو على تسوية جديدة تفرضها مصالح القوى الكبرى والمشاريع التي أنجزتها دوائر صناعة القرار والتي تتجاوز مشاعر وأهواء القاطنين في القصور الرئاسية.
ولكن هل على اللبنانيين أن يخافوا من أن يكون بلدهم ثمناً لتسويات القوى المتطاحنة، عندما يحين الأوان غداً أو بعد غد؟ يُجيب الديبلوماسي نفسه وهو المعروف بخبرته العميقة بالشرق الأوسط ولبنان، بأنّ لبنان لن يكون ثمناً لأيّ تسوية هذه المرة.
في السابق، وتحديداً في السبعينات، كان الديبلوماسيون الأميركيون المحيطون بكيسنجر يُردّدون بما يشبه الوقاحة بأنّ لبنان ليس ضرورة، وقد عانى لبنان ما عاناه وكاد أن يزول. أما الآن فلا شيء من هذا القبيل لا بل على العكس رغم الأزمات الكبيرة التي تختزنها ساحته، ما يعني أنّ لبنان لن يكون ثمناً بل سيستفيد من التسويات السلمية مهما تأخّرت.