قد يكون من الخطأ النظر الى المواقف الصادرة عن الأطراف المعنية بمفاوضات فيينا. ربما الأكثر صواباً هو رصد ما يصدر عن المسؤولين الاسرائيليين. ذلك انّهم معنيون من الجهتين: علاقتهم المميزة بواشنطن وصراعهم المفتوح والمباشر مع ايران.
ومنذ ايام، نقل موقع «اكسيوس» القريب من الاسرائيليين عن مسؤول اسرائيلي كبير قوله، بأنّها ستكون مفاجأة كبرى إذا لم يتمّ التوصل الى اتفاق في فيينا. مغزى الكلام واضح وهو انّ الاتفاق حاصل.
وجاء كلام وزير الخارجية الاسرائيلي يائير لابيد ليعزز هذا الانطباع، عقب زيارة مستشار الامن القومي الاميركي الى اسرائيل حين قال: «نحن في حرب خنادق مع الإدارة الاميركية لتحسين شروط الصفقة».
وبات معروفاً انّ تعليمات صدرت في اسرائيل تطلب من المسؤولين الرسميين الامتناع عن انتقاد إدارة بايدن علناً في حال التوصل الى إعلان الاتفاق.
وبالتالي، فإنّ المؤشرات الاسرائيلية تميل الى اتفاق حاصل، وخلال فترة لم تعد بعيدة. والأهم، تلك التحولات الجارية على الساحة الشرق اوسطية بموازاة هذه المفاوضات المبهمة حول العودة الى الاتفاق النووي.
فالشرق الاوسط الذي كان قائماً قبل سنوات لم يعد موجوداً الآن، فلقد اصبح من التاريخ. فثمة خارطة سياسية جديدة يجري تثبيتها على أنقاض وركام الواقع القديم. فالتطبيع بين اسرائيل والدول العربية قطع شوطاً بعيداً بالرغم من انّه لم يكتمل بعد بانتظار السعودية.
الربط الاقتصادي والتجاري جارٍ على قدمٍ وساق بين اسرائيل وبلدان عربية اساسية. وحتى على الصعيد العسكري، فإنّ مناورات عسكرية بحرية مشتركة حصلت بين اسرائيل والامارات والبحرين. والمسؤولون الاسرائيليون الرسميون يجولون في البلدان العربية، من سلطنة عمان شرقاً الى المغرب غرباً. في وقت تبقى فيه السعودية مكشوفة امام استهداف عمقها الأمني، وسط سعي لإنتاج سلام بارد بينها وبين ايران، سلام لا يشمل ساحات القتال والمواجهة من اليمن الى لبنان.
من جهتها، اسرائيل تعمل على تشجيع خطوات التقارب والانفتاح بين العواصم الخليجية ودمشق، على قاعدة انّ الرئيس بشار الاسد اجتاز قطوع «الثورة» وهو باقٍ، وإنّ الحكمة تقضي «بتحريره» من الإحاطة الايرانية من خلال ضخ استثمارات خليجية في الاقتصاد السوري المتهالك، وهو ما يحتاج اليه بشدة النظام السوري.
في الواقع، ثمة تحدّيات كثيرة تواجه الساحات العراقية والسورية واللبنانية بموازاة المفاوضات الدائرة حول الاتفاق النووي، او بتعبير أدق المفاوضات السرّية التي لا يعرف احد عنها شيئاً. وهذه التحولات تحصل عادة على الساخن. وهذا ربما ما يعيد الحيوية لتنظيم «داعش». دعونا لا نصدّق انّ تنظيم «داعش» قادر على إعادة تأمين موارده المالية والحربية والقتالية بالسحر. المنطق يقول انّ ثمة مستفيداً من الدماء التي سيتسبب بها «داعش» من جديد، بهدف إحداث ترتيب جديد للخارطة ولو على نطاق محدود جداً، وليس وفق الظهور الاول لـ«داعش» منذ سنوات.
في العراق يعتمد «داعش» على رفع وتيرة عملياته الارهابية من خلال اسلوب الكرّ والفرّ، مستفيداً من الأزمات السياسية الحادة الموجودة، وتزامناً مع بدء تقليص التواجد العسكري للجيش الاميركي. وهذه العودة السريعة لـ«داعش» على الساحتين العراقية والسورية تستفيد من الثغرات الأمنية التي تظهر، ومن خلال اللعب على التناقضات، تحضيراً للتسويات السياسية النهائية في كلا البلدين.
في سوريا يركّز التنظيم الارهابي على البادية السورية خصوصاً، والواقعة بين حمص ودير الزور عند الحدود مع العراق. الاستنتاج المنطقي يؤدي الى الاعتقاد بأنّ «حيوية» «داعش» ستتواصل وتستمر الى حين إنضاج التسوية السياسية في العراق وسوريا. وكان لافتاً في هذا الإطار قيام القيادة العسكرية الروسية بجملة ترتيبات، هدفها ترتيب النفوذ العسكري في سوريا. حيث يجري العمل على فتح ابواب التطويع وفق مواصفات محدّدة وإعادة تنظيم اوضاع بعض الالوية الأساسية والمهمّة لصالح النفوذ الروسي. وفي هذا الوقت تقوم السلطات التركية بحملات دهم في جنوب البلاد لمكافحة أي تمدّد لهذا التنظيم الارهابي. فصحيح انّ مجال العمل المطلوب من هذا التنظيم يقع في المنطقة الممتدة ما بين غرب العراق وشرق سوريا، الّا انّ احداً لا يمكنه ضبط الحركة التي سيقوم بها، ما يستوجب اتخاذ الاحتياطات الامنية المطلوبة. ومن هذه الزاوية ايضاً، تصاعدت الضجة في لبنان، خصوصاً بعدما سُجّل مقتل شابين من لبنان خلال قتالهما مع «داعش».
في الواقع، وعلى الرغم من حساسية الوضع، الّا انّ عاملين اثنين يدفعان لعدم الذهاب بعيداً في حالة الهلع.
العامل الاول، ويتعلق بعدم وجود مصلحة خارجية في فتح الساحة اللبنانية امام «تسخين» «داعش» على الاقل حتى الآن. والمؤشرات الموجودة تدعم هذا الاستنتاج، ما يعني أن لا عودة الى مرحلة الاعوام 2015 وحتى 2017.
أما العامل الثاني، فيتعلق بالمتابعة الحثيثة والتي لم تتوقف ابداً من قِبل الأجهزة الامنية، وخصوصاً مخابرات الجيش اللبناني، التي باتت تمتلك خبرة غنية في هذا الإطار. لكن المشكلة انّ الانهيار المالي والمعيشي وتدهور الاوضاع الاقتصادية لدرجة قاسية جداً، اضافة الى تلهّي الطبقة السياسية اللبنانية بحملاتها الانتخابية وفق خطابات غنية بالحقن الطائفي والغرائزي وتعبئة الشارع بعناوين مثيرة، وكأنّ اوضاع الناس بألف خير، كل ذلك يشكّل عامل اغراء وجذب للخلايا الارهابية للتغلغل في المجتمع اللبناني.
اضف الى ذلك، انّ معظم القوى السياسية لا تريد ضمناً حصول الانتخابات النيابية ولو أنّها تدّعي العكس، ولكنها في الوقت نفسه غير قادرة على تعطيلها لأنّها تخشى العقوبات التي ستنالها من المجتمع الدولي، وقد تجد في استخدام الخطاب الغرائزي منفعة مباشرة ودفعاً مقصوداً لتحريك متطرفين على صلة بالتنظيمات الارهابية. صحيح انّ الاحتكاكات وفق عناوين اجتماعية قابلة للحصول بسبب الأوضاع السائدة، وهو ما قد يؤدي الى سقوط دماء، لكن اخطر هذه الاحتكاكات تلك التي قد تحصل وفق عناوين طائفية، كما جرى مثلاً في الطيونة وقبلها في خلدة.
من اجل ذلك، يعمل الجيش على إنجاز مصالحة لأطراف المواجهة الاخيرة في خلدة، ولكن على قاعدة محاسبة المخطئين وليس وفق مبدأ «عفى الله عمّا مضى». كما انّ هنالك معالجة مستمرة وفي العمق لما حصل في الطيونة. وصحيح انّ الساحة اللبنانية موضوعة امام مشروع ترتيب خارطة سياسية جديدة أسوة بما يحصل في المنطقة، الّا انّ المدخل لذلك هو عبر الاستحقاقات السياسية والانتخابية. لذلك يبدو الاستحقاق النيابي المنتظر محطة اساسية لن يقبل المجتمع الدولي بتجاوزها.
ورغم انّ نوايا معظم القوى السياسية اللبنانية لا تبدو سليمة، الّا انّ الرهان يبقى على القوى العسكرية وخصوصاً الجيش اللبناني، لضمان تمرير الاستحقاق النيابي. وبالموازاة، عاد الهمس الفرنسي حول إنزال عقوبات قريبة ببعض الشخصيات السياسية اللبنانية، لمنعها من السفر الى فرنسا، في حال استمرت ألاعيب المماطلة والتسويف حيال الانتخابات النيابية وتعطيل المؤسسات اللبنانية.
ولكن ثمة عوائق كبيرة وأساسية، أبرزها على الإطلاق ضعف الإمكانيات والتراجع الكبير في قيمة رواتب العسكريين. وقد يكون بعض من في السلطة يخطط وبخبث لإنهاك اوضاع العناصر العسكرية أكثر، بهدف جعلها تبدو عاجزة عن تأمين اليوم الانتخابي الذي سيكون صعباً ودقيقاً. وإلّا، فما هو التفسير المنطقي لإبقاء هذه العناصر محرومة من المساعدات المالية كتعويض إضافي على الراتب؟
أضف الى ذلك، الخطر الكبير المتمثل بالارتفاع الكبير لأسعار المحروقات، ومعه كيفية تأمين الدوريات، وايضاً كيفية انتقال العسكريين الى مراكزهم ومواقعهم؟
هو غيض من فيض ويختلط فيه الاستهتار بسوء النية. لكن الأكيد انّ التحولات الكبرى ستصيب لبنان.