تمنّى مراقبون التعرّف الى خبير شبيه بالخبير الهولندي المتخصص بالزلازل فرانك هوغربيتس الذي يرصد حركة التصادم بين «الصفائح التكتونية» في العالم ليقدّر حجم تردداتها المدمرة. وذلك بهدف إرشاد اللبنانيين الى ما يمكن القيام به لتجنيب البلاد تداعيات ما يجري من تحولات كبرى في المنطقة وتلك المتوقعة في ظل المواجهة المفتوحة بين الأحلاف الدولية. وعليه، ما هي الدلائل والمؤشرات المرتقبة التي تنحو الى هذه المعادلة؟
يقول العلماء الجيولوجيون انّ غلاف الأرض الصخري ينقسم إلى عدد من «الصفائح التكتونية». ويتراوح عددها بين سبعة و ثمانية صفائح كبرى، مع الإشارة الى أن عددها يتوقف على طريقة تعريف الصفيحة الكبرى في ظل صعوبة إحصاء كثير من الصفائح الصغرى. وعندما تلتقي هذه الصفائح، فإن حركتها النسبية تحدد نوع الحدود في ما بينها وإذا كانت تقاربية أو تباعدية أو متحولة. فتحدث الزلازل والبراكين وتتشكّل الجبال والخنادق المحيطة بها على حدود هذه الصفائح.
وفي محاولة لقراءة هذه المقاربة العلمية ومدى تطابقها مع مجموعة «الهزات الكبرى» التي عانى منها لبنان وتردداتها المختلفة المتباعدة بين عقد وآخر منذ إعلان دولة لبنان الكبير، قياساً على حجم التحولات الدولية الكبرى، وتلك الصغرى المتكررة بطريقة شبه «مستدامة» منذ سنوات عدة قياساً على حجم التحولات المتسارعة في الجوار اللبناني منذ عقود افتقدت فيها الدولة هيبتها تدريجاً الى حين ما بلغته من انهيارات طاوَلت سلطاته ومؤسساته المختلفة، باستثناء ما نَدر منها وخصوصاً العسكرية والامنية في ظل وجود حكومة تصريف اعمال افتقدت كل عناصر القوة بما فيها التضامن المطلوب، ومجلس نيابي يعمل على القطعة بعد عجزه عن إتمام أولى واجباته المفروضة دستوريا منذ ثلاثة عشر شهرا لجهة انتخاب رئيس للجمهورية قبل القيام بأي عمل آخر.
وقياساً على عدد «الصفائح التكتونية الكبرى» المختلف حول احصائها بفارق بسيط، فقد عاش لبنان منذ مئة وعامين مجموعة من المحطات الوطنية والسياسية الزلزالية التي يقارب عددها تلك الصفائح. وتحديداً منذ تلك التي رافقت تكوين الدولة ومؤسساتها في ظل الانتداب وصولاً الى تجاوزها الحرب العالمية الثانية، فإعلان الاستقلال، وصولاً الى قيام الدولة العبرية وتهجير الفلسطينيين، ومن بعدها مسلسل الحروب الإسرائيلية على دول «الطوق» ولبنان واحد منها بعدما شهد أكثر من عملية اجتياح بلغت العاصمة عام 1982. علماً ان البقية منها استمرت بنحو متقطع حتى العام 2006 بعد محطة الإنسحاب الاسرائيلي الاكبر حجماً عام 2000 من دون أن ننسى ترددات اجتياح العراق للكويت وردّات الفعل عليه، كما الحروب التي أعقبت احداث 11 ايلول التي استهدفت برجي التجارة العالمي في نيويورك.
يقضي المنطق بالقول انّ اللبنانيين نجحوا في تجاوز عدد من هذه المحطات بأقل الخسائر الممكنة. ولمّا خرجوا من البعض منها بأقوى مما كانوا عليه، فقد تلاحقت الأزمات التي انعكست على قوة وهيبة ومناعة الدولة ومؤسساتها «بنحو تنازلي» أدّى في النتيجة الى ما نشهده منذ سنوات من انهيارات عامة تهدد كيانها وسلطاتها ووحدة مؤسساتها وفقدان أبسط الخدمات المطلوبة بما لم يكن في الحسبان يوماً.
وإن كان من المنطقي القول ان ما سبقت الاشارة اليه مجرد تأريخ لحياة اللبنانيين، وصولا الى المرحلة الأخطر التي دخلتها البلاد، وهي تجلّت بحجم الأزمات الداخلية التي تلت حرب تموز 2006، التي وإن تمكّن اللبنانيون من تخطي آثارها التدميرية على بناه التحتية وقطاعات الخدمات، فقد تراجعت قدرات الدولة وسلطتها دراماتيكياً في السنوات الاخيرة نتيجة عدم قدرة أهل الحكم والحكومة في الحفاظ على الحد الادنى من الحياد ومكافحة الفساد والتماهي الإيجابي مع التحولات الكبرى في المنطقة.
لقد كان مطلوباً من اللبنانيين ترقّب حجم ما هو مرتقب من متغيرات كبرى، وكان على أركان السلطة أن يتفهموا مُسبقاً ما هو حتمي من أجل الحفاظ على الرعاية الدولية التي حظي بها لبنان في العقود الاخيرة. وعلى عكس ما كان مرغوباً به، عجز اهل الحكم عن الحد من تراجع برامج الدعم دراماتيكياً إلى أن افتقدها في مرحلة تزامنت وتورّط بعض اللبنانيين في حروب المنطقة. وبذلك أُلحقت الساحة اللبنانية بالساحات المتفجرة نتيجة ما شهدته دول عدة من انتفاضات داخلية أطاحت بحكامها وأنظمتها وبلغت الذروة في حرب سوريا واليمن ومعها مسلسل الحروب الاسرائيلية – الفلسطينية الداخلية، ولم تعد هناك قدرة لدى أي دولة عربية على التدخل لوضع حد لها نتيجة «اتفاقيات السلام» المصرية والأردنية مع إسرائيل قبل مسلسل «التفاهمات الابراهيمية» الاخيرة.
وبناء على ما تقدم لا يَسع المراقبون وعند إجراء أي مقارنة بين ما تشهده المنطقة من غليان مُتنام في السنوات الاخيرة وما تشهده الساحة اللبنانية من شلل أصابَ مقومات الدولة وسلطاتها ومؤسساتها مِن تبيان حجم الفوارق الهائلة التي أبعدت البلاد عن المخارج والحلول التي يمكن اللجوء إليها لاختصار معاناة اللبنانيين التربوية والإجتماعية والمعيشية والخدماتية والصحية نتيجة جائحة «كورونا» وما تسبب به تفجير مرفأ بيروت في ظل الإنهيار المالي والنقدي الذي ترك بصماته على موازنة الدولة وخزائنها وقطاعها المصرفي، وما أصابَ القضاء والفشل في انتخاب رئيس للجمهورية، ما وضعَ البلد في أقرب نقطة من الإنهيار الشامل.
على هذه القاعدة وبالاستناد الى هذه المؤشرات، تخشى مراجع سياسية وديبلوماسية عند معاينتها لهذا الوضع أن تبقى البلاد اسيرة الأزمات الداخلية بطريقة أبعدت عنها كل ما راهنَ عليه العالم من مؤشرات السلام في المنطقة نتيجة التحولات الكبرى التي قاد إليها «تفاهم بكين» بين السعودية وإيران لعدم وجود اي ملف للبنان على جدول أولوياتهما، في ظل المساعي لترجمته في إحياء العلاقات الديبلوماسية بينهما وترتيب الوضع في اليمن بعد انهاء الحرب فيها قبل أن تتعثّر بعض الخطوات نتيجة ما استجدّ من حديث عن احتمال التطبيع بين المملكة وإسرائيل وما يمكن ان تؤدي إليه من ردات فعل على العلاقات بين الرياض وطهران ومحور الممانعة قبل الانتقال الى مرحلة التطبيع بين الدولتين.
وفي معلومات هذه المراجع أنه ما زال هناك وقت للحديث عن اتفاق سلام بين الدولتين فما هو مطلوب لم يكتمل بعد. وهو باتَ رهناً في جزء منه بما يمكن ان تقدمه القيادة السعودية من اسرائيل للسلطة الفلسطينية إن كان ذلك ممكناً في ظل الحكومة الاسرائيلية الحالية المتشددة التي تُراهن على عملية سلام تستثني أي تنازلات لهذه السلطة. ليبقى ما هو مطلوب رهناً بما يجري إعداده من تفاهمات سعودية ـ اميركية سعياً الى اتفاقية دفاعية ثنائية وتطوير برنامج الرياض النووي المدني.
وختاماً، لا بد من الاشارة الى ان المرجح بإجماع سياسي وديبلوماسي هو ان لا يستفيد لبنان من أي حراك إقليمي ودولي في ظل المشهد المرتبك في المنطقة، فلا تعود عليه التطورات الكبرى المتسارعة إلا بمزيد من الخسائر لتفاقم معاناة اللبنانيين من ترددات الازمات المالية والنقدية والسياسية ومعها موجات النزوح والهجرة اللذين يُعتبران القنبلة الموقوتة التي تهدد لبنان، فيما المسؤولون غارقون في حالة من الغيبوبة يقودون المناكفات المستمرة بلا سقوف محددة.