المحامي حسن مطر
ليس مستغرباً ولا في الأمر مفاجأة غير متوقعة ما يجري حالياً من سجالات ومقالات في الصحف أو على مواقع التواصل الاجتماعي البيروتية عن جمعية المقاصد الخيرية الاسلامية، وما تعانيه من مخاطر وسلبيات باتت تهدد وجودها.
وقبل الاسترسال في هذا الموضوع اذكـّّر وانبّه، اليوم المقاصد وغداً دار الافتاء وبعدهما موقع رئاسة الحكومة؟!! إن لم يجر تدارك الوضع برمته بشكل عاجل وسريع وبتكاتف وتعاون كل أصحاب الارادات الطيبة.
فقد أُكلتْ بيروت، أهالي وأملاك عقارية، عاصمة ومحافظة، بلدية ووظائف يوم أُكل الثور الابيض، وما زال التآكل والتراجع والضعف والوهن «ماشي» وبخطى سريعة تحت سمع ونظر من يتولى أمرها بل وبمشاركة اكثرهم، ويكفي للتذكير ما حذرنا منه ونبهنّا مع غيرنا في سلسلة مقالات عن بيروت واوضاعها نشرتها مشكورة جريدة النهار وبعضها جريدة اللواء البيروتيتين.
وللإيضاح: بدأ عندي الوعي بالمقاصد جمعية، ومدارس، ومستشفى، ومدافن وتربية وطنية وعروبية واسلامية واخلاقية يوم أدخل مستشفاها شقيقي مصاباً اثناء ثورة 1958 يوم 13 تموز وبترت ساقه وكان عمري دون الخامسة عشرة ومكثت معه لمدة شهرين أتاحا لي، اهمية هذه الجمعية ومشفاها وعظمة خدماتها الجلّى واعتزاز ابناء المجتمع البيروتي كله بالجمعية ومؤسساتها ومدارسها التي أسهمت بشكل حاسم تعليم ابناء المسلمين كافة من اللبنانيين بحيث تخرّج من صفوفها كبار المتعلمين والمثقفين من ابناء بيروت خاصة والمسلمين عامة وتساءلت يومها لو لم يكن للمسلمين المقاصد فكيف كان حالهم؟!
كنت وما زلت من الداعين لنصرة المقاصد والالتفاف حولها. وكنت وما زلت كلما دخلت بيتاً او مكتباً أطالب بالاحتفاظ بصورة لمؤسس جمعية المقاصد الفاضل والمبدّع الشيخ عبد القادر قباني رحمه الله الباني مع اخوان أجلاء لأول مؤسسة اسلامية في ظل الحكم العثماني العام 1878. والتعرف الى سيرته العطرة وابداعاته القيمة ليكون لأجيالنا المتعاقبة مثلاً ومثالاً يوجب الاقتداء به.
وزادت معلوماتي وتوسعت أكثر عن جمعية المقاصد عندما حصلت من احدى طالبات بيروت على دراسة اعدّتها عن الجمعية ومؤسسها وميثاقها ونظامها لنيل شهادة الماجستير – سبق وامتنعت الجمعية عن طباعتها – ومما جاء فيها وأبهرني ان هذا الشيخ الجليل وبعد ان أتمّ التأسيس وكل مقتضيات الجمعية وبناء أول كلية لتعليم بنات المسلمين قبل الابناء الذكور غادر مكانه ولم تمض على الجمعية سنتان حتى لا تدخل في دائرة الارث العائلي فيتناوب على ادارتها بالوراثة الابناء والزوجات والاقرباء جرياً على ما تسير عليه انظمتنا العربية ودولها والمؤسسات في هذا الزمن الرديء.
وكان الشيخ قباني رحمه الله وطيّب مثواه من انصار تداول المسؤوليات واخراجها من العمل الذاتي والشخصاني وابعادها عن الارث العائلي المتحكم بنّا جميعاً على حساب الكفاءة والقدرة والقيم والاخلاق وامانة المسؤولية ومسؤولية الامانة وعوامل النجاح.
عاصرت مرحلة ازدهار جمعية المقاصد منذ منتصف الخمسينيات واحتفالاتها المتعددة والمتنوعة في المناسبات الوطنية والدينية الاسلامية والتربوية والاجتماعية وسيرة أساتذتها ومدرسيها الافذاذ، من زكي النقاش وعمر فروخ وفضل حركة، والنوابغ من طلابها بتلاوة القرآن الكريم تجويداً وتفسيراً، وبالخطابة إلقاءً واسلوباً، ولغة عربية صحيحة بقواعدها، وسليمة بنطقها وما زال في مسمعي وذاكرتي بعضاً من حريق المقاصد في محلة الحرج منتصف الخمسينيات اثناء الاحتفال بعيد المولد النبوي الشريف حيث اصيب الكثير من الطلاب والمحتفلين من اهالي بيروت بحروق كبيرة ومنهم أقرباء لي فأصابت النيران الملتهبة اجسادهم وظلت اثارها على الوجوه والجباه والايادي.
المقاصد بانطلاقتها الرائعة وتقديماتها الجّلى واداراتها الحكيمة مثلّت الثقل والثقة وكانت لازمة وملازمة لكل الأسُر البيروتية فكانت المستشفى مكاناً لمعظم الولادات وللمعالجة والاستشفاء والمدرسة لتعليم الابناء ذكوراً واناثاً والمدفن للمثوى الأخير وهذه ظاهرة لبنانية تنفرد بها الطوائف اللبنانية خارج الدوائر الرسمية والحكومية منذ ان قامت الدولة.
وجاء الزمن الذي تولّى فيه رئاسة الجمعية المهندس امين الداعوق سليل العائلة البيروتية العريقة والبيت القائم على الايمان والتقوى. وخلف السلف المشهود له مقاصدياً ممن منحوها قسطاً كبيراً من حياتهم ومجهوداتهم سابقاً ولاحقاً ومن ابرزهم عمر بك الداعوق الموصوف في العهد العمري، والرئيس صائب سلام ثم الرئيس تمام سلام الذي ننتظر منه بكل الاحترام والمحبة أن يدلو بدلوه عن تجربته في ادارة الجمعية واقتراحاته للانقاذ والاصلاح والتطوير لتبقى هذه المؤسسة الاسلامية الأولى في مقاصدها التي انشئت من أجلها ولتبقى السند القوي والأمين للمسلمين واللبنانيين عامة وتأمين الحماية للمقاصد من يوم مشؤوم قد يأتي لا سمح الله نردد فيه ما قيل لأمير غرناطة يوم تفريطه بالامانة «لا تبكي كالنساء ملكاً لم تحافظ عليه كالرجال».
والجدير ذكره انه منذ تسلم المهندس الداعوق رئاسة المقاصد وجد أنه قد ترتب عليها دين مالي قدّر يومها بأربعين مليون دولار ثم ارتفع الى ثمانين واسهاماً مني ومن زملاء محامين آخرين دعينا الى لقاء ضم حوالى سبعين محامياً في دارة المحامي عصام بعدراني لما لوالده ابو عفيف بعدراني من اسهامات بيروتية شعبية عالية، وبحضور رئيس المقاصد شخصياً وتحت رعايته من اجل مواجهة هذا الدين المتراكم والحصار المادي وغير المادي من الداخل ومن الخارج العربي طالبنا باستعداد لا نظير له ان نجول على المتمولين والاغنياء واصحاب الثروات من المسلمين اللبنانيين لجمع التبرعات اسوة بما قام به المؤسس الاول للمقاصد عند التأسيس.
وقد نجح آنذاك مع اخوانه وفاز واياهم فوزاً عظيماً وأطلّت المقاصد على المسلمين واللبنانيين بتمويل بيروتي بحت وذاتي دون اي دعم من أحد كواحدة من ابرز المؤسسات الخيرية والتي على منوالها سارت بقية الطوائف وكانت اعمالها الخيرية جميعاً من بناء المدارس والمستشفيات ودور العبادة المداميك الاهلية الاساسية في بناء دولة لبنان الحديث وما زالت، ومن المعروف ان الهيئات الاهلية تفوقت في هذا المضمار على الدولة ومؤسساتها والحاكمين فيها.
واقترحنا عليه ايضاً أن تخرج المقاصد عن صمتها الدائم وأن تطلّ من جديد على المجتمع البيروتي وشخصياته وقواه الشعبية والثقافية والاجتماعية والمالية والعائلية باعتبارهم الضمانة الوحيدة للاستمرار وللنجاح. وان تطل المقاصد اعلامياً بشكل دوري كاشفة عن تقديماتها وانجازاتها وبرامجها ليكون جمهورها والمسلمون واللبنانيون عامة على اطلاع وليتسنى الحوار والنقاش توخياً للفائدة اذ لا مبرر للعزلة ولا للكتمان ولا للسرية فمشاركة الناس في عقولهم وفي قضاياهم وجعل امورهم شورى بينهم هو الطريق الصحيح الذي يحقق الأهداف.
فضلاً عن ضرورة اخضاع المقاصد للمساءلة والمحاسبة والنقد والنقد الذاتي واعتماد هذه الاساليب ليس اساءة ولا تهميشاً للمؤسسة ولا للقيمين عليها بل هي تجديد وتطوير، فالوقوف عند الاشادات الدائمة بالمغادرين لمواقع المسؤولية بدون جردة للمساءلة والمحاسبة يضر ولا يفيد كما ان الاشادة بالرئيس القادم دون ان يقدم برنامجه ومنهجه للعمل وسبل حل المشاكل المطلوبة للمؤسسة هو اسوء من الاولى وهذا ما جرى ويجري حالياً.
1 – ان الدعوة لمؤتمر عاجل من الحريصين على المقاصد والقادرين من ذوي الكفاءة والخبرة والمعرفة وابعاد قدر الامكان عن هذا المؤتمر من تكون اولوياتهم، مصالحهم السياسية والسلطوية وتكون اهتماماتهم التجاذبات السياسية والبحث عن دور ذاتي لا مجتمعي. فالمقاصد وبكلمة حق هي ضحية امثال هؤلاء.
ان هيئات المجتمع الشعبي المدني ومفكريه ومثقفيه والاعلاميين واساتذة الجامعات والاداريين واساتذة المقاصد من المعلمين والطلاب والطالبات المتفوقين ورؤساء العائلات البيروتية المشهود لعلمهم وتجربتهم وحياديتهم هم طريق العلاج الصحيح والانقاذ المطلوب وينبغي عقد مثل هذا المؤتمر وقبل فوات الآوان.
2 – من مهام المؤتمر البحث عن مخرج ممكن وقابل للتنفيذ من هذه الازمة القائمة وتقديم مقترحات من كل القادرين من أجل الاصلاح والتطوير والتحديث وانقاذ المقاصد من أزمتها الراهنة واصلاح بنيتها الادارية والمؤسساتية والتربوية والتعليمية وتعزيز الايمان الديني الوسطي وتفعيل دورها الذي كان رائداً في المجتمع الاسلامي اللبناني ودورها الوطني والعروبي الحضاري.
3 – اعادة احياء – اتحاد المؤسسات الاسلامية – الذي كان يهتم بوضع حلول عملية للمشكلات وتقديم المساعدات المجدية.
4 – يجري مجلس الأمناء الجديد ورئاسته حركة اصلاحية تشمل الادارة والتربية والتعليم والاشخاص.
5 – اعادة فتح وتفعيل كل المدارس التي أغلقت وتخفيض أقساطها واحداث قفزة برفع مستوى التعليم الذي اشتهرت به مدارس المقاصد أصلاً.
6 – فتح باب التبرعات من كافة أغنياء المسلمين ومن الفعاليات وبصورة دورية ومستمرة واعتماد كفالة الطالب.
7 – التوسع في افطارات شهر رمضان المبارك للتبرع في بقية المحافظات اللبنانية الرئيسية وبعواصم عربية ودول صديقة.
8 – التمني بأن يساهم مجلس الأمناء الحالي السير على خطى المؤسس الأول ويبادرون مجتمعين الى التبرع بمبلغ لا يقل عن مليون دولار أميركي كمبادرة كريمة وشجاعة.
وأخيراً تحية اكبار واجلال واحترام لكل الرواد السابقين الذي ساهموا بتأسيس المقاصد ونهوضها وكل من تولى رئاستها وعمل في مجلس ادارتها. مئة وأربعون عاماً (140) والمقاصد شاهد حق على عظمة بيروت عاصمة، وأهالي ورواداً وستبقى المقاصد ما بقيت بيروت المحروسة وما بقى لبنان الوطن.