يبدو هذا العنوان: “اليابان أميركا… ونحن” كأنه ممازحة أو سخرية من أصحاب ضمير الجمع ونون الجماعة. لكن واضعه، السفير سمير شمّا، من أكثر ديبلوماسيينا جديّة ودقّة ومهنيّة. وفي هذا الكتاب الذي قدّم له مواطن لبناني – ياباني آخر هو كارلوس غصن، يعرض السفير شمّا خلاصة مشاهدات عميقة جمعها عبر ثلاثة عقود في حقيبة الديبلوماسي المتعمّق، ما بين الأميركتين وبلاد الامبراطور الياباني مروراً بأوروبا، مختتماً تلك الدورة في فيينا حيث أهم مدرستين متشابهتين: مدرسة العلوم الدبلوماسية تحت اسمين ذائعين هما تاليران ومترنيخ، و”المدرسة الإسبانية” حيث تُعلَّم الخيول الرقص على إيقاعات موزار. وتَضبُط الحوافر الجامحة نوتات الموسيقى الحالمة.
في فيينا التاريخية التي قلّدها البارون هوسمان في عمار باريس، تعرّفتُ إلى سمير شمّا، الذي تولّى يومها تثقيفي في تاريخ الامبراطوريات نشوءاً وانكفاء ونهايات. وبدا واضحاً أن الامبراطورية التي تركت الأثر الأعمق فيه كانت اليابان، حيث لزمن طويل، كان الامبراطور شبه إله، وربما لا يزال. سحرَته التجربة اليابانية عن كثبٍ كما سحرتنا عن بُعد. وخلال خمس سنوات أدرك في يوميات طوكيو ما أدركه الجنرال ماك آرثر، الذي أنزل الهزيمة باليابانيين، وهو أن الامبراطور سرّ الوحدة في البلاد سواء أمسك حقاً بقرص الشمس أم كان إنساناً عادياً يرعى الأزهار الجميلة في حديقة القصر.
بلد عجيب اليابان، مليونا إنسان خرَجا إلى شوارع طوكيو ليودِّعا ماك آرثر المحتل العائد إلى بلاده. ومن هي بلاده؟ إنها الدولة التي قرّرت أن تقصف اليابانيين بقنبلتين ذرّيتين من أجل أن تَحسم الحرب وتَحدّ من صمود وعدوانية هذا الشعب الذي لا يكفّ عن التوسّع والجموح واستعمار الجيران من كوريا إلى روسيا إلى الصين.
عجيب أمر اليابان. بعد الحرب تحوَّلت هذه الامبراطورية العَدائية إلى أحد أكبر رموز السلم في التاريخ. رفضت التسلّح، ورفضت القوة العسكرية، ورفضت النفوذ السياسي، وراحت تعتذر من جميع ضحايا الأمس عن ماضيها الاستعماري، ودخلت في حلف سياسي مع أعدائها السابقين، ومضت تعمل في قفيرها وأوكارها مثل النحل والنمل، لتنشئ ثانية كبرى القوى الصناعية في العصر الحديث. ومع ذلك، ظلّت تشعر، بكل تواضع، بأنها ليست سوى دولة زراعية صغيرة المساحة، ولذلك هاجر أهلها طلباً لسعة المكان وفسحة الأرض في أميركا الشمالية والجنوبية. ويقول عالِم ياباني للسفير شمّا إن لبنان واليابان دولتان متشابهتان في الهجرات، لكن الياباني هاجر مزارعاً، فيما حمل اللبناني خبرته التجارية منذ أيام الفينيقيين ليبرع بهذه الصنعة في كل مكان.
رسم اليابانيون ابتسامة التجلّد والصبر وهم يستعمرون الولايات المتحدة بوسائل أخرى: هزمت سياراتهم سياراتها. وأجهزة التلفزيون القميئة الشكل التي كانوا يصنعونها في البداية، تحوّلت إلى أحدث وأجمل التصاميم. وقبل بضعة أسابيع كُشفت فضيحة هزّت شركة “فولكسفاغن” لأن كبرى الشركات الاوروبية حاولت التزوير من أجل أن تحلّ مبيعاتها محلّ شركة “تويوتا” في الولايات المتحدة. ولربما كان في إمكان الشركة الألمانية أن تحقق ذلك من دون أي فضيحة على الإطلاق، بأن تطلب من كارلوس غصن إدارة الشركة بعض السنين، كما فعلت شركة “نيسان” عندما باتت الشركة اليابانية الأولى تتخلّى عن الكبرياء، وتعيّن غصن رئيساً عليها طوال أكثر من عقد. اسمان لبنانيان في تاريخ صناعة السيارات، كارلوس غصن في “رينو” و”نيسان”، وجاك نصر الذي صار لفترة مكان هنري فورد.
الذين عاشوا الحِقب الطويلة في الخارج، مثل سمير شمّا، تسنّى لهم أن يتعرّفوا إلى نسخة أخرى من اللبنانيين، أي ذلك اللبناني الذي يُبدع في الخارج ويتفوّق ويتقدّم في الفكر والعلم والصناعة والسياسة، بينما يظلّ هنا عاجزاً عن إزاحة النفايات من الطريق. يروي السفير شمّا، جذِلاً بالطبع، كيف سأله الامبراطور عن لبنان، وكيف سألته الامبراطورة إن كانت شجرة الأرز لا تزال على صمودها بين الثلوج. تُرى هل يعدّ الأباطرة مثل هذا الكلام لاستقبال السفراء، أم أنهم يتابعون حقاً أخبار الخارج وأحواله؟ انطباع السفير أن لهذا البلد الصغير وَقْعاً خاصاً في قلوب الآخرين، وأنه عندما يسألون عنه، يفعلون ذلك بمودّة حقيقية بعيداً من بروتوكولات أوراق الاعتماد. هذا ما شعر به سفيراً في تشيلي وسفيراً في كندا، وخصوصاً سفيراً في النمسا عندما أبلغه الرئيس كورت فالدهايم، أنه خلال عمله أميناً عاماً للأمم المتحدة كان قلبه يتحرّق على لبنان لشعوره بأن المنظمة الدولية لم تكن قادرة على فعل أي شيء حيال العذاب الذي ينوء تحته البلد. وكان فالدهايم يستعيد أمام السفير أسماء اللبنانيين الذين تجاوز حجمهم لدى المنظمة الدولية ضعف ووهَن لبنان الغارق في النزاع الأهلي، وخصوصاً، بالتأكيد، غسان تويني، صاحب ذلك القرار التاريخي الرقم 425.
قبل أن تهاجم أميركا جورج دبليو بوش العراق، علَت حول العالم، وفي واشنطن نفسها، أصوات كثيرة تقول إن العراق سوف يكون اليابان الأخرى. فما أن تدخل القوات الأميركية حتى يستقبلها العراقيون بالأهازيج شاكرين لها الإنقاذ من الديكتاتور. وبين الذين توقّعوا ذلك كان وزير الدفاع دونالد رامسفيلد، الذي سجَّل في “البنتاغون” العلامات التي سجّلها جورج دبليو في البيت الأبيض. غاب عن بال أصحاب هذه النظرية شيء جوهري هو أن العراق ليس اليابان. فهو دولة ذات مكوّنات كثيرة، زاد تفرّقها والتفاوت بينها في ظلّ النظام الحزبي، ولم تكثُر طوائفها ومذاهبها فحسب، بل كثُرت فيها أيضاً حروب الأحزاب وعنف اليسار واليمين. وسُحل الشيوعيون في الساحات، كما سُحل من قَبلهم الملكيون. وفوق ذلك، فإن أميركا لم تُرسل إلى البلد المهزوم والمحتل هذه المرة الجنرال ماك آرثر، بل أرسلت رجلاً أرعن يُدعى بول بريمر ينتعل حذاء للتنس ويضع ربطة عنق حمراء مثل مهرّجي السيرك. لم يكن بريمر، المفوض السامي الجديد، يعرف شيئاً، أو لمحة، عن تاريخ العراق وطِباع العراق. فقد مضى ذلك الزمن الذي كان فيه البريطانيون يُرسلون إلى المستعمرات خريجي أوكسفورد ودارسي التاريخ مثل الخاتون غرترود بيل، أو الضابط تي أي لورنس، أي لورنس العرب، الذي أقنعنا بأنه زعيم “الثورة العربية” التي أدّت في نهاية المطاف إلى حسم التوكيل الأخير للامبراطورية العثمانية وبقاياها في هذه المنطقة.
كثيرة أسرار اليابان. لعل أهمها وأجملها، كما يقول سمير شمّا، ذلك الانفتاح الكلّي على الثقافات والحضارات والعلوم من دون أي عقدة نقص. أو زيادة. وليس هذا حال الأمم الأخرى، فاليونانيون كانوا يشكرون الآلهة لأنهم خُلقوا يونانيين، لا برابرة، وآمنوا بأن كل ما هو غير يوناني بربري. وعندما اقترب الأجانب من شواطئ الصين، كان أهلها يسمّونهم “الشياطين الأجنبية الذميمة” وأن لا حاجة بهم لثقافاتهم لأن الصينيين يملكون كل شيء. ويقول نجم الثاقب خان: “نظراً لرضى الصينيين عن أنفسهم وغرورهم بمعارفهم، فقد افتقروا لحبّ الاستطلاع اللازم لدراسة الجوانب الصناعية والتكنولوجية في الحضارة الغربية خلافاً لما فعله اليابانيون”. أما الهنود فكانوا يعتبرون أن مَن يسافر إلى أرض غريبة يُصبح كائناً ملوّثاً. وأما العالم العربي فقد ذكَر المفكّر شارل عيساوي “إن الرحالة ابن جُبير عندما زار صقلية وغيرها من الأراضي الأوروبية، لم يعرب عن أي اهتمام بعادات سكان تلك المناطق أو مؤسساتهم، بل إنه لم يكفّ عن استنزال لعنات الله على أولئك الكفَرة“.
وقال المفكّر الجزائري الكبير مالك بن نبي “إن الفارق العظيم بين الصلة التي ربطت اليابان بالحضارة الغربية، وصلَتنا بها، أن اليابان وقفت من الحضارة الغربية موقف التلميذ، ووقفنا نحن موقف الزبون. إنها تستورد منها الأفكار الخاصة، ونحن نستورد منها السلع الخاصة“.
ولكن كيف يرى اليابانيون العرب؟ ينقل المؤلف عن كتاب “العرب وجهة نظر يابانية” للمؤرخ نوبو آكي نوتوهارا، الذي أمضى أربعين عاماً في العالم العربي، أن ثمة ثلاثة محرّمات في هذا العالم هي الدين والجنس والسياسة. ويقول إن التوريث متجذّر في العالم العربي حتى في الأحزاب اليسارية، “فقد بقي السيد خالد بكداش رئيساً مطلقاً للحزب الشيوعي السوري منذ شبابه حتى وفاته. بعد رحيله، احتلّت زوجته منصب زعامة الحزب، كما أن ابنه عضو في المكتب السياسي، ولنا أن نفترض أنه سيَرث السيدة الوالدة بعد عمر طويل إنشاء الله”. ويقول نوتوهارا إن العقل الياباني عاجز عن أن يفهم ما يسبغه الناس على الحاكم من صفات ألوهية كالخلود والأبدية. ويستغرب “أن يرى شاعراً أو كاتباً عربياً يمدح على السواء الملكين الحسن والحسين والرؤساء السادات وصدام حسين والأسد. نحن لا نفهم كيف يمكن شاعراً كبيراً أن يمدح كل هؤلاء القادة في آن واحد. قد نفهم أنه أُعجب بأحد فمدَحه، أما أن يمدح قادة يختلفون في أساليب قيادتهم إلى حد التناقض، فهذا يعني أنه مستعدّ لمدح مَن يدفع له نقوداً. أنا لا أستطيع أن أقبل كاتباً يمدح السلطة، أو كاتباً ليس له موقف صريح من قضايا الشعب في العالم العربي”. أما عن علاقة المواطن بحاكمه فيقول “إن المعيار الوحيد لكرامته هو مقدار ولائه للحاكم وطاعته له والتسبيح بحمده في جميع الظروف والمناسبات. وهذا كله غريب علينا نحن اليابانيين في حاضرنا على الأقل”. ويعتبر نوتوهارا أن حرية المعتقد والرأي والتعبير وممارسة الحريات السياسية غائبة عن العالم العربي، وأن “القمع هو الداء العُضال والكارثة المقيمة في البلدان العربية، وهو يُفقد حياة البشر أكثر معانيها. والحكومات لا تُعامل الناس بجديّة، بل تسخر منهم وتستغْبيهم، وموظّفوها لا يُبالون بهم، والرشوة هي سيدة الموقف“.
الجزء الآخر من الكتاب رحلة ممتعة في عالم سمير شمّا الأثير. عالم المغتربين والمتحدّرين الذين رآهم في كل مكان وشاهد أحفادهم وشهد نجاحاتهم الكبرى بعد قرنين تقريباً من تاريخ الهجرات القاسية. ولم يُفاجأ وهو يودّع رئيس البرازيل ليُصبح سفيراً في تشيلي أن يقول له الرئيس، سوف أطلب منك، وليس من سفيرنا، أن تحمل تحياتي إلى الرئيس التشيلياني، لأننا هنا نعتبر أن اللبناني سفير للجميع في بلدان الجميع. وكما كان حرص الديبلوماسيين الأوائل على الجمْع بين العلاقات مع الديبلوماسية والمغتربين معاً، هكذا فعل سمير شمّا وذلك السرب المتميّز من السفراء الذين بعثَتهم زحلة إلى عواصم العالم من فؤاد الترك إلى إدوار غرّة إلى نجيب صدَقة إلى مجموعة كبيرة من السفراء والقناصل. لقد تدرّبوا في المعاهد على العمل الديبلوماسي ودرّبتهم زحلة على حفظ العلاقة مع أهل الاغتراب. ومعروف أنها لم تُرسل إلى المهجر الديبلوماسيين وحدهم، وإنما أرسلت أيضاً طائفة كبرى من الأدباء والشعراء والتجار والفنانين الذين حفظوا جميعاً درسهم الأول في الجغرافيا الكبرى، وهو أن لبنان بلد عزيز جداً لأنه قضاء واقع في محافظة زحلة، المكنّاة “دار السلام”، المغنّاة “جارة الوادي“.
“اليابان أميركا… ونحن” درس ممتع في علم الاجتماع وعمل جليل من أعمال التأريخ المقارن. إضافة إلى أنه رحلة من الانطباعات حول الأرض، اختار فيها الديبلوماسي أن يكون دارساً، لا سائحاً.