كان ينقص «حزب الله» وقضاء الممانعة وأجهزتها الانزلاق إلى استدعاء الناشط السياسي الأكاديمي مكرم رباح للتحقيق في ادعاءات تهدف إلى إسباغ تهمة العمالة للعدو عليه، لذكره وقائع معروفة ومنشورة في وسائل إعلامية عدة في الداخل والخارج. اعتقد جهابذة أفعال كهذه أنّ بالإمكان استخدام ذريعة ذكر معلومات معلنة عن تواجد المقاومة «حيث يجب أن تكون» على ما تقول قيادة «حزب الله» فيما أمكنة تموضعها معروفة لسائقي التاكسي وأصحاب العقارات ومتنزهي «البيك نك»، ناهيك عن مسيّرات الـ»إم كا» التي تلتقط حتى صور المزارعين الذين يتجرأون على تفقد أراضيهم… وتسجل بصمة وجوههم.
محاولة ترهيب الناشطين المعارضين، مهما كانت مواقفهم، متطرفة أم معتدلة، لم تخدم بالتأكيد لا «الحزب» ولا المقاومة في ظل تنامي المناخ السياسي العام ضد فرضهما خياراتهما على سائر القوى السياسية. وهو مناخ متنامٍ ومضطرد ومتراكم منذ فرض الشغور الرئاسي.
إذا كان التسبب بالفراغ الرئاسي كان بذريعة واهية لم تعد ترهب أحداً، هي منع مجيء رئيس «يأتمر بأوامر أميركا لخدمة لإسرائيل… ولأخذ لبنان إلى التطبيع معها»، كما قيل منذ سنة ونصف السنة، ورددته وسائل إعلامية موالية للممانعة ورجالات تنطق باسمها، فمن نافل القول إنّ هذه الحجة سقطت بوقف استكمال صفقات التطبيع، بعد اندلاع الحرب على غزة. وسقطت مرة ثانية بحكم الاجتماعات بين إيران وأميركا في عُمان.
التحوط عبر الرئاسة في لبنان لمخططات التطبيع كان وهماً مفتعلاً، لأن الممانعة متهمة بالاعتراف بالعدو، منذ أبرمت الاتفاق على الحدود البحرية.
وسواء صح هذا الاتهام في شأن تقاسم الثروة الغازية والنفطية في البحر مع إسرائيل من قبل المقاومة أم لم يصح، وسواء جاء في سياق الجدل الإعلامي والدعائي بين الممانعة وخصومها، أم أنه واقعي، فإنّ أي رئيس في لبنان مهما كانت هويته قريبة من أميركا والغرب، ليس مستعداً لأي نوع من أنواع التطبيع حكماً. اختراع الوهم لتبرير امتداد الشغور في الرئاسة، مثل افتعال وهم القدرة على ردع معارضي فرض خيارات «الحزب» على أكثرية اللبنانيين، سواء في شأن خيار فتح الجبهة في جنوب لبنان، أم في ما يتعلق باليوم التالي للحرب والتسويات الإقليمية التي يمكن عقدها من بعده، ومن ضمنها ما هو متوقع في شأن إظهار الحدود البرية…
يثبت استخدام القضاء مجدداً أنّ عقل الممانعة يتجاهل التغيير والتوسع في المناخ السياسي والشعبي حيال إحكامها القبضة على السلطة في البلد في السنوات الماضية. إنه تجاهل شبيه بذلك الاستعلاء الذي واجه به رجال الهيمنة السورية تنامي النقمة السياسية والشعبية على إحكام القبضة من قبل دمشق على مفاصل السلطة والمؤسسات. عاش هؤلاء في وهم القدرة على تطويع المعترضين مهما كثر عددهم. وللتذكير فإنّ هذا الوهم أفضى إلى انفجار كانت نتيجته تجاوز ما كان مطلوباً في حينها، أي إعادة تموضع الجيش السوري في البقاع، إلى الانسحاب الكامل.
من دون المقارنة بين الحالتين، أي بين بلوغ النقمة هيمنة المخابرات السورية وتسلط نفوذ حزب لبناني بالسلاح، فإنّ فائض الثقة بالقدرة عند «الحزب» على ترهيب معارضيه، يقوده إلى خطأ الحسابات.
لطالما قيل إنّ الحسابات الداخلية لدى قيادة «الحزب» قاصرة عن الانسجام مع المزاج اللبناني المعقد، مهما تمتعت هذه القيادة بالقدرة على الحسابات الدقيقة في ضبط المواجهات مع إسرائيل بناء لطلب إيراني، لانخراطه في لعبة إقليمية خطرة ودقيقة. بل إنّ بعض المحنكين الذين يتعاطون مع هذه القيادة عن قرب، يعتبرون أنّ قدرتها على أخذ حساسية التركيبة اللبنانية في الاعتبار، شبه معدومة، وأنّ الحليف الأول الرئيس نبيه بري يلعب أحياناً دوراً في استدراك بعض الأخطاء، إذا أمكنه ذلك. والأسباب كثيرة من خارجية إلى عقائدية ومذهبية وإيرانية…
الخطير في الظروف الراهنة أنّ هذه القيادة تمر في حالة إنكار بأنها خسرت الغطاء المسيحي الذي اتكأت عليه لسنوات، وما زالت تراهن على استعادة بعضه، فيما المزاج المسيحي صار في مكان آخر.