«صوت صارخ في البرّية».. هذه هي حال الفاتيكان مع موارنة لبنان. ولأنّ هذه العبارة من الإنجيل المقدّس تجسّد فعليا الآذان الصمّاء التي يستقبل بها المسؤولون المسيحيون صرخات «الكرسي الرسولي»، جاءت زيارة محافظ المحكمة العليا للتوقيع الرسولي الكاردينال دومينيك مامبرتي الى بيروت التي يغادرها اليوم بعد 5 ايام أمضاها متجولا على عدد كبير من المسؤولين اللبنانيين.
وشكل لقاء القطبين المارونيين ميشال عون وسمير جعجع في الرابية، أمس الأول، بالتزامن مع زيارة الموفد البابوي، «صدفة مقدسة» كما يصفها أحد الكهنة العاملين على خطّ الإستحقاق الرئاسي الذي بلغ «عدّاد» جلساته الـ24 أمس من دون أن يتصاعد الدخان الأبيض من ساحة النجمة.
تندرج زيارة مامبرتي في إطار السعي الفاتيكاني لحثّ المسؤولين المسيحيين والمسلمين اللبنانيين على الاتفاق على انتخاب رئيس للجمهورية بأسرع وقت ممكن حفاظا «على التركيبة اللبنانية الرسولية» على حد تعبير مصادر متابعة للزيارة.
ولم يغب كلام مامبرتي أمس في بكركي بحضور البطريرك الكاردينال بشارة الراعي عن هذا الموضوع الأحب الى قلب الفاتيكان حين أشاد «بميزة لبنان المتمثلة بالعيش المشترك وثقافة العيش الإسلامي ـ المسيحي». وقد أكد الكاردينال الملّم بالشؤون اللبنانية (عيّن كاردينالا في 19 شباط الفائت وكان وزيرا لخارجية الفاتيكان لثمانية أعوام) ما يردده السفير البابوي في لبنان المونسنيور غابريال كاتشا يوميا: ثمّة اهتمام بابوي مباشر بالإستحقاق الرئاسي وعتب على السياسيين الموارنة وصل حدّا غير مسبوق.
وبحسب المعلومات، نقل مامبرتي رسالة بابوية مفادها أنّ الفاتيكان يستعجل إجراء الانتخابات الرئاسية اللبنانية «اليوم قبل الغد، لأنّ موقع الرئيس المسيحي الوحيد في المنطقة يطمئن المسيحيين المشرقيين».
وأشار مامبرتي الى أن التأخير المستمر مؤذ للمسيحيين في لبنان والشرق، وكلّ تأخير إضافي سيرتّب ضررا على لبنان ومسيحييه والمسيحيين المشرقيين ويتحمّل مسؤوليته المسؤولون الموارنة اللبنانيون مباشرة. ودعا الموفد البابوي من التقاهم من المسؤولين اللبنانيين الى عدم التعويل على تدخّل خارجي، بل اجتراح حلول داخلية تحمي استقرار لبنان من تداعيات الهزّات الإرتدادية لما يجري في الإقليم.
تأتي جولة مامبرتي اللبنانية بـ «مباركة» أميركية مباشرة عقب اتصالات مكثفة جرت مؤخرا بين الدوائر الفاتيكانية المختصة والممسكة بالملفّ اللبناني وبين دوائر وزارة الخارجية الأميركية، وقد اتفق الطرفان على الدفع في اتجاه اجراء الانتخابات الرئاسية في لبنان، وقال أحد المسؤولين الأميركيين لمحدثه في الفاتيكان: يوجد 72 مليون كاثوليكي يعيشون في أميركا بسلام وعلى مسيحيي الشرق أن يعيشوا مثلهم.
وعلمت «السفير» بأنّ الحركة الفاتيكانيّة مواكبة لحركة موازية تقوم بها دوائر ديبلوماسية إيرانية في شأن الاستحقاق الرئاسي اللبناني ستظهر نتائجها قريبا بحسب ديبلوماسيّ اوروبيّ أوضح أيضا أن زيارات رئيس دائرة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا في وزارة الخارجية الفرنسية جان فرانسوا جيرو الذي سيرأس في بيروت اجتماعا لسفراء المنطقة ستصبّ في خانة الحثّ على الإنتخاب الرئاسي، مشيرا الى أنّ جيرو لا يحمل مبادرة فرنسية معينة لأنّ مهمته انتهت وسينتقل قريبا الى مركز عمله الجديد كسفير لفرنسا في المغرب.
هل أينعت الثمار العونية ـ القواتية؟
لعلّ لقاء عون ـ جعجع كان إحدى ثمار الضغط الشعبي المسيحي أولا والفاتيكاني ثانيا في اتجاه تحريك الملفّ الرئاسي. وتشير أوساط مارونية رافقت مامبرتي في جولته الى أنّ اللقاء العوني ـ القواتي «إيجابي حتما، لكن لا أحد يجزم ما اذا كان سيحمل ثمارا سياسية وخصوصا في الشأن الرئاسي». أما إيجابيته الأولى فتتمثل بإعادة التوازن الى الساحة السياسيّة الداخلية المسيحية بعد أن اختلّت لمصلحة حليفي الفريقين أي «تيار المستقبل» و «حزب الله» بفعل خلافاتهما المستحكمة.
وتعتبر الأوساط المارونية أنّ هذا اللقاء يشكّل عدّا عكسيّا لبدء التحضير لانتخاب رئيس للجمهورية اللبنانية بالرّغم من تكتّم الطرفين عن هذا الموضوع ورفضهما الخوض فيه علانيّة لغاية اليوم.
«إعلان النوايا» الذي صدر عن لقاء عون ـ جعجع، أمس الأول، أكد على ثبات اتفاق الطائف والحرص على المناصفة وعلى احترام الدستور والقرارات الدولية برمتها، «وهذا أمر ملزم للعماد ميشال عون إذ يدفعه الى إعادة النظر بالكثير من المواقف في ما يخصّ ملفات عدة منها على سبيل المثال لا الحصر المحكمة الدولية الخاصة بلبنان»، كما يقول أحد رجال الدين المسيحيين الذين واكبوا المحادثات بين الطرفين.
الضغط الشعبي على القادة الموارنة كبير، وكذلك الضغط الفاتيكاني الذي وصل حدّ التلويح بتحركات شعبية ضدّ استمرار الفراغ، بدأ يؤتي ثماره بحسب رئيس المجلس العام الماروني الوزير السابق الشيخ وديع الخازن الذي «هندس» للقاء عون ـ جعجع من وراء الكواليس. وقال الخازن لـ «السفير» ان الأمور لن تصل حدّ التظاهر، وهذه الفكرة طرحتها بكركي، أما الفاتيكان فلا يتدخّل بالتفاصيل الداخلية والمرجح أن نصل الى انتخاب رئيس للجمهورية قريبا.