أياً تكن المآلات التي وصل إليها الحدث السوري، فإن عنوانه الأساس والدائم هو ثورة شعبية على نظام سياسي خارج منطق الدولة الحديثة، ويحكم بآليات لم تعد صالحة لحكم البشر. لكن مع ذلك، فإن إدارة الصراع من قبل اللاعبين الدوليين، ترتكز على تداعيات الحدث، سواء لجهة صناعة مخارج الأزمة وإنتاج تسوياتها أو حتى لجهة تعريف الصراع ذاته.
المنطق أن تتحمل أطراف الصراع المحلية الجزء الأكبر من مسؤولية مآلات الأحداث، من منطلق أنها الحاضن والمنتج والمشكّل لنمط الصراع الحاصل، لكن المسألة السورية تنطوي على جانب خاص، دولي وإقليمي، فالتدخلات المباشرة من إيران وروسيا كان لها دور فاعل وأساسي في صياغة توجهات الأحداث وتوضيبها على شاكلات معينة، وبالتالي فإن العالم يتحمّل قسطاً كبيراً من المسؤولية، عبر انخراطه في الصراع سلباً أو إيجاباً، ومن خلال إدارته إياه في جميع مراحله، وبخاصة أنه صراع يتراكب فيه المحلي بالإقليمي والدولي، إما بسبب وقوعه على خط الأزمات الدولية المعاصرة، والصراع الروسي- الغربي، أو بسبب تشابكه مع قضايا الأمن العالمي ومستلزماته، وحق الشعوب في تقرير مصيرها، ومسألة الإرهاب، وتأثيرهما على السلم العالمي.
لقد حوّلت طريقة إدارة الصراع من اللاعبين الدوليين، سورية إلى كارثة ومستنقع خطر سوف يحتاج العالم لجهود مضنية وتكاليف مرتفعة للتخلص من الآثار السلبية لتداعياته، من خلال دمج الصراع في إستراتيجيات اللاعبين ومشاريعهم الجيوسياسية، في المنطقة والعالم، وبإسقاط رؤاهم وتصوراتهم الخاصة، وهو ما نتج عنه تهميش العنصر الأساسي في الحدث، وهو الشعب السوري ومصيره، وقد ضمنت تلك الإستراتيجيات على الدوام إنتاج ديناميكيات جديدة للصراع عبر تفاعلها مع منظومة أهداف المتصارعين المحليين، أو على الأقل اعتقاد هؤلاء أن اتجاهات الأحداث ستسير لمصلحتهم.
طوال مرحلة الصراع كانت هناك مؤشرات واضحة إلى التحوّلات الحاصلة والمخاطر المتحقّفة، لكن لم يجرِ التعامل معها بجدية، منذ أن هتف الشعب السوري «ياالله مالنا غيرك» كانت تلك رسالة حول هول المجزرة المتوقعة، ورغم توافر الفرص لإحداث تغييرات في ديناميكيات الصراع لم يجرِ استثمارها، أو جرى توظيفها لخدمة إستراتيجيات معينة، ولعل مثال حادثة الكيماوي الشهيرة وطريقة إدارتها خير مثال على ذلك. يومها لم يكن نظام الأسد يحلم بأن تجري مفاوضته على انتقال سياسي وتشكيل طاقم للحكم من المعارضة والنظام. كان يجهز نفسه للقتال الأخير، لكن البدائل التي أتاحتها إدارة أوباما، والتي تتسق مع إستراتيجيتها في تأمين إسرائيل قبل كل شيء، توضح بدرجة كبيرة الطبيعة الوحشية لإدارة المسألة السورية، ذلك أن أميركا فاضلت، وبانتهازية وعلى رؤوس الأشهاد، بين هدف إستراتيجي يتمثل في رغبتها بانتزاع الأسلحة الكيماوية السورية التي ستكون خطراً على إسرائيل تحت أي حكم في سورية، وبين إنقاذ السوريين من المذبحة وإنهاء آلامهم.
لم تكن النقلات التي أجراها اللاعبون الخارجيون، وخاصة أميركا، عبثية، وإنما جاءت في سياق إستراتيجية متكاملة كانت تهدف دائماً إلى تحقيق أهداف ملموسة وعوائد حقيقية، تحت عنوان الابتعاد عن الأزمة وتوريط الخصوم فيها. من يرجع لتاريخية الأزمة سيذهله حجم التصريحات التي أدلى بها قادة عسكريون أميركيون ونظراؤهم في حلف «الناتو» عن عدم وجود إستراتيجية للتدخل في سورية، حتى قبل التدخل الروسي بزمن طويل! كما أن انتقال روسيا إلى مرحلة التدخل المباشر، واتباعها سياسة الإبادة في سورية، لإرعاب الخصوم الدوليين وإثبات الجدارة، كان ترجمة مباشرة للإدارة المتوحشة التي سمحت لها باستعراض فائض قوتها، وشجعتها على ذلك، لعل قوّتها تستنفد بعيداً من خطوط التماس في أوروبا.
ليس ثمّة ما يشي بتغيرات مهمّة في إدارة الصراع في سورية. الأطراف جميعها لا زالت رهينة تقديراتها الخاصة جداً لمصالحها ورؤيتها البعد الاستثماري في الصراع، وانطلاقاً من ذلك، ستبقى محركات الصراع فاعلة، وستستمر عدّتها التشغيلية من موت السوريين واقتلاعهم من أرضهم إلى حين تمتلئ سلال اللاعبين الكبار بالنقاط والأهداف.