لماذا تحوّلت مدينة منبج بين ليلة وضحاها نقطة مواجهة بين جميع اللاعبين في سوريا؟
ربما السبب هو موقعها الجغرافي الذي يتقاطع مع أكثر من خط يجمع الجهات الأربع في الخريطة السورية. وربما ايضاً لأنّها مركز عبور الخط الرئيسي الذي يجمع العراق وسوريا وتركيا.
وربما، وهنا الاحتمال الأهم، أن تكون نقطة اساسية في المشروع الكردي لشمال سوريا الذي تمّ التفاهم حوله، على ما يبدو، بين واشنطن وموسكو من وراء ظهر تركيا التي كشفت عن كثير من خططها وأهدافها للأميركيين والروس فبنوا استراتيجياتهم على أساس ذلك لتعطيل الخطة التركية في سوريا؟
يقول رئيس الوزراء التركي بن علي يلدريم «إنّ العلاقات مقطوعة مع النظام السوري، وإنّ تركيا لن تفاوض بشار الأسد على موضوع الأزمة السورية، وإنّ روسيا وإيران هما مَن يتولّيان نقلَ الرسائل والمعلومات».
لم يُفهم ما قصده يلدريم عندما قال إنّ «انسحاب وحدات حزب الاتحاد الديموقراطي الكردي من منبج لمصلحة قوات النظام السوري مسألة لا يمكن وصفها بالسلبية»؟
مشكلة الوحدات الكردية في شمال سوريا التي يقودها حزب الاتحاد الديموقراطي أنّها وزّعت على عناصرها أعلام العديد من الدول التي تتدخل مباشرة في ملف الازمة السورية وتنسّق معها وهي ترفع هذه الأعلام عند اللزوم تماماً كما فعلت أخيراً في منبج عندما تمّ الاحتماء وراء الأعلام الاميركية والروسية هناك من الغضب التركي.
مشكلة اخرى يواجهها حزب الاتحاد الديموقراطي هي قرار إجبار مَن هم في عمر الـ14 عاماً من فتيان وفتيات على حمل السلاح للدفاع عن مشروعهم، وإنّّ واشنطن نفسها تشجّع على ذلك، وهذا ما نشرته قيادة القوات الاميركية على موقعها الالكتروني قبل أيام عندما أبرزت صوراً لفتيات صغيرات في مقتبل العمر يحملن السلاح تحت شعار «جاهزات للقتال».
حزب الإتحاد الديموقراطي لم يعد في إمكانه اللعب على الحبال كافة كما كان يفعل حتى الأمس القريب. الناطق باسمه في موسكو عبد السلام محمد علي يقول إنّ لا علاقة لهم بالمعارضة السورية، وإنّ لا مشكلة لهم مع النظام السوري ومع بشار الأسد ولا ينوون إسقاطه، والدليل أنّهم قرّروا التخلّي عن مواقعهم في منبج لمصلحة قوات النظام.
لكنّ أنقرة ايضاً في ورطة كبيرة. المشهد السياسي والعسكري في منبج اليوم يكاد يقول: إنّ المفاوضات التركية ـ الأميركية التي دارت على خط أنقرة- واشنطن وصلت الى طريق مسدود، وإنّ الادارة الاميركية اعطت قرارها النهائي في رفض خطة تركيا في إخراج الوحدات الكردية من منبج وإطلاق عملية تحرير الرقة بالتنسيق معها.
وإنّ أميركا تفاهمت بعيداً من الأعين مع الكرملين على خطة مشتركة سياسياً وعسكرياً في منبج والرقة وإنّ الدور التركي فيها شبه معدوم طالما أنّ تركيا تتمسّك بمواقفها وشروطها التي تتعارض مع حسابات وخطط اميركا وروسيا في مسار العملية السياسية والدستورية في سوريا المستقبَلية.
وإنّ مواجهة منبج هي تصفية حسابات مع أنقرة التي تصلّبت في مسألة الدخول الى الباب وتريد أن تكرّر الشيء نفسه هنا متجاهلة أنّ المعركة مع «داعش» تختلف كلياً عن المعركة مع الوحدات الكردية التي بنت تحالفات جديدة مع واشنطن وموسكو في إطار شكل خريطة سوريا السياسية الجديدة.
وإنّ رفض انقرة لأيّ احتمال في تغيير موقفها حيال تصنيف حزب الاتحاد الديمقراطي على أنّه تنظيم إرهابي مرتبط مباشرة بحزب العمال الكردستاني يعقّد المسائل أكثر فأكثر ويترك موسكو وواشنطن وسط مساومة صعبة حسمت لصالح عدم التفريط بالورقة الكردية في سوريا لصالح الأتراك بسبب التصلب التركي الذي لا يأخذ في الاعتبار مصالحهم الاستراتيجية والاقتصادية في سوريا.
وإنّ تركيا التي تكرّر منذ عامين أنّ معركة منبج مقبلة لا محالة سقطت في الفخ الأميركي الروسي الذي أقنعها ان تكون الاولوية لمدينة الباب ثمّ مناقشة موضوع منبج لاحقاً، وهو الذي لن يشكل عقبة في سحب المقاتلين الأكراد من المدينة، لكنّ البديل عن ذلك هو ما لم يكن الاتراك يعرفونه وها هم يفاجأون اليوم بصيغة اعادة قوات النظام السوري مع توفير الحماية والضمانة أنّ تركيا لن يقترب منها وتعمل على تغيير المعادلات هناك.
وإنّ خطة درع الفرات والمنطقة الآمنة ستتوقف على ابواب منبج التي تزيد مساحتها عن 500 كلم وبالتالي ستكون تركيا ملزَمة إذا ما شاءت إعلان منطقة آمنة مصغّرة بعيداً من النفوذ والتمدّد الكردي الذي سيساوم بعد الآن على الوصول الى ما يريد مقابل تفاهمات جغرافية ودستورية واقتصادية جديدة في سوريا تأخذ بما يريد ويقول.
وعدتنا واشنطن بإخلاء منبج من الوحدات الكردية لكنها لم تقل لنا إنها ستتفاهم مع الروس على تسليم المكان لقوات النظام السوري لتتحوّل الى قوات فصل بين الاتراك والاكراد تتمركز تحت حماية العلمين الاميركي والروسي. فكيف ستردّ أنقرة؟
تفاهم النظام والوحدات الكردية التابعة لصالح مسلم قد يرضي الروس والاميركيين والإيرانيين لكنّ المهم كما يبدو ليس إرضاءهم فقط بل إغضاب أنقرة وتركها امام ورطة اللاحول ولا قوة في تبنّي الخيارات الأصعب والأمرّ: أما التصلب في قرار الدخول الى منبج وعدم التراجع عنه مهما كان الثمن أو الدخول بالتنسيق مع قوات البشمركة السورية والجيش الحرّ في حرب مفتوحة مع قوات صالح مسلم في شرق الفرات مباشرة عبر القلمشلي وعين عرب وتل ابيض لفتح ممرّ يوصلها الى منبج.
أو القبول بالنظام في منبج والإعلان أنها وصلت الى ما تريد مع أنها تعرف أنّ خطوة من هذا النوع لن تستمرّ طويلاً وأنّ النظام سيغادر منبج لاحقاً لصالح القوات الكردية التي حصلت على الضمانات الدولية الكافية لإنجاز مشروع الدويلة الكردية في سوريا على الحدود الجنوبية الشرقية لتركيا.
لو لم تنجح تركيا وحكومة العدالة والتنمية في إفشال المحاولة الإنقلابية في منتصف تموز المنصرم لكانت منحت واشنطن الوقت والظروف لتفعل ما تريد في سوريا لأنها ستكون وصلت الى فعل ما تريد في الداخل التركي، من هنا كلّ هذا الغضب والخداع والتآمر ربما.
الرئيس التركي سيلتقي نظيره الروسي بعد أيام فما الذي سيناقشانه بعد «خدعة منبج» التي تتعارض كلياً مع الغزل الروسي التركي الاخير؟ أستانة ثالث وجنيف خامس ربما بانتظار أن تستوي الطبخة على الارض ميدانياً في محاولة جديدة لإخراج تركيا تماماً من المشهد السوري.
فكيف تستعدّ أنقرة لمواجهة كلّ هذه «الشموع السوداء» التي يُراد لها أن تضىء طريق «الزوج المخدوع» أميركياً وروسياً؟