أضاف التفجير الانتحاري الذي استهدف شباباً بعمر الجاني، في حفل غنائي، مدينة مانشستر الى لائحة البلدان الأوروبية التي ضربها الإرهاب الظلامي. يأتي ذلك في وقت تقلصت فيه كثيراً رقعة «تنظيم الدولة» في سوريا والعراق، لكن عملية طرده من الموصل لم تستكمل بعد، وفي ظل ورشة اسلامية غربية مشتركة لمحاربة هذه العدمية الظلامية الدموية.
ما زال بامكان تنظيم «داعش» أن ينفذ عملية ارهابية على الاقل كل شهر في مدينة من مدن أوروبا، بحصيلة متفاوتة في عدد الضحايا. ما زال بامكانه أن يزرع الرعب ويعيد الى الصدارة الحديث عن عدم كفاية أشكال مكافحة الارهاب كما هي متداولة ومطبقة الآن.
وما زال النقاش على هامش كل عملية ارهابية من هذا النوع أسير نظرتين اختزاليتين: واحدة ترفض أن ترى في هذا الارهاب أي علامة ثقافية أو اعتقادية فارقة، وثانية تحسب هذا الارهاب من رصيد مدى حضاري ديني بأسره. واحدة تريد تفسيره بالماضي فقط، وثانية بالحاضر فقط. واحدة تريد تفسيره بأنه نتيجة العولمة، التي قوّضت الحدود وسمحت بالتالي بسرعة انتقال المخاطر من بلد الى بلد، بكل أنواع هذه المخاطر، وثانية تفسره بأنه نتيجة الخوف من العولمة، الخوف من أن يصير عالمنا بلا حدود، وأن ينتزع كل واحد من «أرضه المتخيلة».
يبقى أن شاباً فجّر نفسه في شباب آخرين من عمره، لا يعرفهم، ولا علاقة لهم بجبهات القتال المشتعلة في عالم اليوم، بما في ذلك جبهة القتال ضد تنظيم «داعش». شباب يدرس ويعمل ويحضر حفلات غنائية، ولهم مواقف مختلفة في ما بينهم في السياسة الداخلية البريطانية، أو في السياسة الخارجية ونظرتهم الى العالم. وحّدهم الانتحاري بجريمته. في وحدتهم هم تعددية حيوية، عادية، تشهد على ما يريده ليس فقط أغلبية الناس في الغرب، بل أغلبية الناس الساحقة في العالم الاسلامي وفي كل العالم، من حياة هنيئة، كريمة، هادئة أحياناً، صاخبة أحياناً.
لا يلغي ذلك أن وراء الانتحاري مخيلة دموية تتشكل من عناصر ثقافية واعتقادية ومن صور، بعضها منقول بالتواتر وبعضه من الرعب السينمائي، عناصر لن تجد في أي منها علة الانتحاري، وانما في أسلوب اجتماعها كلها في شخصه. هذا الاسلوب الذي يتحرك بشكل واع في مكان ما من أجل «الفوز بالعدم». ثمة نزوع عدمي لا يقتصر على الارهابيين الانتحاريين في عالم اليوم، تعب مبكر من الحياة لأسباب وتفسيرات شتى، وهذا النزوع الى العدم يتخذ كثافة فظيعة له في عمل الانتحاري، وفي عدواه. كل انتحاري يريد من عمله أن يدفع بآخرين الى استدامة هذه الجريمة.
عند الانتحاري نزوع الى العدم أكبر بكثير من أي حنين خرافي الى الماضي. ظلاميته لا تعني أنه جاد في سعيه من أجل انبعاث الماضي أياً كان هذا الماضي. سعيه أكبر من أجل تأمين مستقبل لعمله هذا: كي يحث آخرين على هذه الجرأة «الجبانة»، العطشى للدم البريء.
ثمة ما ينبغي فعله ضد هذه المنظومة الارهابية الدموية يتعلق باستصلاح أسلوب النظر الى كل من التراث «الماضي» والمعاش في الزمن الحاضر. يبقى أن الصراع الاساسي مع هذه المنظومة على المستقبل. تريد هذه المنظومة أن تطرح نفسها كعمل يتواصل شهراً بعد شهر، من مدينة الى مدينة، وأنها تملك دينامية استمرارية كهذه الى أبعد وقت. قطع هذه السلسلة يكون بالاصرار في وجهها أنها ليست وحدها من يقرر سبيل الاحرار في عالم اليوم الى صنع أيامهم الآتية، بل ان الشباب في الحفلة الغنائية المستهدفة بمانشستر له حق أهم بكثير من منظومة الشر في صنع يومنا وغدنا.