Site icon IMLebanon

مانديلا في فلسطين

لم يحظ الاحتفال بنصب تمثال نيلسون مانديلا أول من أمس في رام الله باهتمام يستحقه عربياً وعالمياً، حتى في الحد الأدنى لدى وسائل الإعلام المقروءة والمسموعة والمرئية. وأقيم الاحتفال في ميدان حمل اسم المناضل الأفريقي المتسامح، بحضور الرئيس محمود عباس وشخصيات فلسطينية ورئيس بلدية جوهانسبورغ بارك أستاو.

عدم الاهتمام العربي لا يحجب الأهمية التي يوليها فلسطينيو 1948 والضفة وغزة لرمزية تمثال مانديلا في وطنهم، كونه المناضل العالمي الأبرز الذي انتصر على نظام التمييز العنصري في وطنه جنوب أفريقيا، واعترف بعد الانتصار بحقوق متساوية للبيض والسود ولكيانات قومية ودينية متنوعة، في مقدمها الهنود والمسلمون… ذلك أن الفلسطينيين يعتبرون سلطة الاحتلال الإسرائيلي، خصوصاً في عهد بنيامين نتانياهو، نظام تمييز عنصري بامتياز، وبذلك يرون في إقامة تمثال لمانديلا في بلادهم تأكيداً على مواجهتهم عنصرية إسرائيلية تكشّر عن أنيابها، عبر حركات متعصبة لا تكف عن تأكيد يهودية الدولة وأن إسرائيل دولة لليهود لا لأي شعب آخر أو لاتباع أي دين آخر، والمقصود هنا المسلمون والمسيحيون سكان البلاد الأصليون.

مزاج النضال الفلسطيني المعبّر عن الحياة اليومية تحت الاحتلال، يتّجه إلى شيء من المفارقة مع المزاج العربي والإسلامي المنشغل بصراع الوجود، بين دولة حديثة تتآكل بفعل الانقسامات والإسلام السياسي المتطرف الذي يتقصّد هدم الدولة لإقامة نظام ديني يخالف القيم الإسلامية المتعارف عليها ويؤكد رؤيته الخاصة للمجتمع الديني (يرى العالم نموذجها لدى “داعش” و “القاعدة”).

ومن خلال تمثال مانديلا، يتذكّر الفلسطينيون تزامن إنشاء إسرائيل مع نظام التمييز العنصري الذي أرساه “الحزب الوطني” في جنوب أفريقيا، في عام واحد هو 1948، لكن عنصرية إسرائيل استمرت بعد القضاء على التمييز في جنوب أفريقيا بإطلاق نيلسون مانديلا من سجنه المديد (27 عاماً) عام 1990 وتكريس ذلك بانتخابه رئيساً عام 1994 (انتُخب آخر رئيس لنظام التمييز فردريك ديكليرك نائباً لمانديلا). وحين يواجه الفلسطينيون التمييز يومياً، فهم يدركون مدى ارتياح النظام الإسرائيلي لتفكيك الدولة العربية الحديثة وصعود التشكيلات العسكرية للإسلام المتطرف التي تشبهه ويشبهها، مع اختلاف في درجة الذكاء أو التذاكي في مخاطبة العالم المتمدّن القائم على الديموقراطية واحترام الفرد وحرية العقيدة.

ويؤكد تمثال مانديلا أن مزاج الفلسطينيين يتقدم اليوم على مزاج الإسرائيليين، في ما يتعلق بالاجتماع السياسي وحقوق الإنسان، على رغم تراجع ملحوظ بفعل ضغوط الإسلام السياسي ونزعات التعصب والتحامل التي تجتاح المجتمع الفلسطيني المتأثر بجواره العربي المتدهور، بعدما كان مؤثراً فيه إيجاباً في فترات صعود المقاومة الفلسطينية وتوهّج شخصيتها القائمة على الاعتراف والانفتاح داخلياً وخارجياً.

وإذا كان الإعلام أهمل الاحتفال بتمثال مانديلا، فإن الفلسطينيين يتحملون مسؤوليتهم في هذا الشأن، خصوصاً نخبهم الحاضرة في مؤسسات ثقافية واجتماعية واقتصادية وإعلامية في عواصم عربية وعالمية. أليس ملفتاً أن المعلومات الشحيحة عن الحدث لم تحمل كلمة للرئيس الفلسطيني في المناسبة، ولم يصدر المنظمون بيانات تشرح معناها القائم على مواجهة العنصرية الإسرائيلية وأي تمييز آخر في منطقة الشرق الأوسط الحافلة بالكوارث المتتابعة.

كم يبدو مثالياً أن نحلم بولادة مانديلا إسرائيلي ومانديلا فلسطيني يتعاونان لكسر حلقة التعصُّب الجهنمية التي تدمّر منطقتنا وتحطم الجوانب الإيجابية من قيمها وتاريخها. ويمكن لهما مواصلة مسار مانديلا الأفريقي، هو القائل أثناء محاكمته عام 1964: لقد قاتلت ضد هيمنة البيض كما قاتلت ضد هيمنة السود، وإنني أحيي المجتمع الديموقراطي الحر الذي يعطي الجميع فرصاً متساوية ومتناغمة. إنه مثال أتمنى أن أعيش لأراه يتحقق، ولكن، إذا اقتضت الضرورة، فإنه مثال أستعد لأن أموت من أجله.