التغنّي بالديموقراطيّة «يصيبها بالعين»، وهذا ينطبق أساساً اليوم على تونس.
ففي هذا البلد استحقاق انتخابي تزاحميّ تعدّدي اليوم. هو حاصل بعد تجاوز البلد قطوع الإتفاق على دستور يكرّس المكتسبات المدنية والجمهوريّة من ناحية، وسقوط الديكتاتورية من ناحية ثانية. لكن اقرار هذا الدستور واجراء هذه الانتخابات التشريعية الثانية لا يكفيان لوحدهما للاطمئنان لا الى متانة المؤسسات السياسيّة وهي لا تزال بعد طريّة العود، ولا الى استكمال شروط التحوّل في الاتجاه المدني الدستوري للإخوان المسلمين في حركة «النهضة»، ذلك أنّ أي حركة لا تعيش الديموقراطيّة في داخلها لا يمكن الاطمئنان الى التزامها التداول السلميّ على السلطة وصيانة حقّ الاختلاف والحرّيات العامّة والخاصة. كذلك، لا يمكن الاطمئنان الى أن القوى المواجهة للإسلاميين في تونس قد توصّلت الى بلورة بديل متكامل، عن الإسلاميين من ناحية، وعن الشعبويّة الغليظة لدى العلمانيين واليساريين من ناحية ثانية، وعن أقطاب الأوليغارشيّة المالية وبطانة النظام القديم من ناحية ثالثة. والمجال متاح لأن تستفيد «النهضة» من تضعضع أخصامها، رغم اخفاقها الحكومي في معالجة الشؤون الاقتصادية والمعاشية، وظهور نوستالجيا شعبية للمظاهر الإجتماعية من سياسات نظام زين العابدين بن علي، في وقت يتفاقم فيه الفقر لا سيما في المناطق التي تسببت فيها البطالة والفاقة والتهميش في تفجير الربيع العربي.
وحدة التنظيم والتعبئة والمرجعية عند جماعة «النهضة» تعطيها حافزاً كبيراً في مواجهة تشتّت القوى الجمهوريّة، حيث لم تكفل صدمة اغتيال كل من شكري بلعيد ومحمد البراهمي في المضي حتى النهاية في تكتيل هذه القوى. بهذا المعنى، ثمة ما يشبه التجربة التركية (انتظام الاسلاميين، تشتّت الجمهوريين) وما يختلف عنها في آن: فـ«النهضة» ليست «العدالة والتنمية» الذي بامكانه ان ينتزع أكثرية كاملة، وراشد الغنوشي أقرب الى ممارسة دور مرشد الجماعة منه الى اتاحة المجال لظهور رجال سياسة أحرار يتحوّلون الى رجال دولة على طراز رجب طيب أردوغان. وفي أقلّ تقدير، هذا التحوّل لم يتحقّق بعد. على صعيد النخب الاقتصادية، ورغم أن حركة «النهضة» أظهرت الافتقاد الى أي حساسيّة اجتماعيّة جديّة، فإنّها بعيدة كثيراً عن النجاح الاستقطابي لشرائح واسعة من رجال الأعمال في «العدالة والتنمية». ضعف البرجوازية هو الفارق الكبير بين التجربتين التركية والتونسية. ضعف قدرة الحركة الاسلامية التونسية على التحوّل الى حزب البرجوازية يجسّد هذا الفارق. ضعف الحركة الجمهورية عن الاستفادة من ذلك يعزّز هذا الافتراق.
في الوقت نفسه، وبخلاف عجز العلمانيين الأتراك عن التأثير اليوم، رغم انتفاضة الشباب قبل عام ونيّف، فإن الجمهوريّين التوانسة يمتلكون تجربة ناجحة في معركة الدستور، استفادوا فيها، جزئياً، من عدم ذهاب حركة «النهضة» بعيداً في التواطؤ مع السلفية الجهاديّة على يمينها في مواجهة العلمانيين، رغم استمرار المعركة الميدانية اليومية حول الحريات العامة والخاصة وحول حقوق وقضايا النساء. كما استفادوا من صدمة الحركة الاسلامية التونسية من تهاوي النموذج الاخواني المصريّ، الأمر الذي قوى ضمن هذه الحركة المشرب «التركيّ الهوى». يبقى مع ذلك جانب مقلق في هذه المعادلة: العدد المرتفع نسبياً للمقاتلين الجهاديين التوانسة في سوريا، لا سيما الملتحقين منهم بتنظيم «داعش»، والموقف المسيء للشعب السوري عند أقطاب العلمانية التونسية، المتضامنين مع الطاغية بشار الأسد.
هذه التجربة التونسّية تكاد تكون اليوم بمثابة «الربيع العربي في بلد واحد». لكن ليس أبداً كما لو أنّ «الربيع» اقتصر من الأساس عليها. فتونس، وان كانت من خارج نطاق الحروب الأهلية الممتدة من العراق الى ليبيا، مروراً بسوريا واليمن، فإنّ استثناءها الراهن كثير الاحالة الى هذه الحروب، وليس هو بكاف نفسه بنفسه ومنقطع عن هذه الاحالة. وبالتوازي، فإنّ هذا النجاح التونسي في اقرار دستور ديموقراطي، وفي الاحتكام للصناديق مجدداً، وفي التعايش مع أزمة حكومية مزمنة، لا يعني أنّ ثمة نموذجا يكفي أن نتغنّى به حتى يهلّل هلاله في مشرقنا أيضاً.
مشكلة الاستثناء التونسي اليوم في عدم قدرته على الانفصال بذاته عن خارطة الحروب الأهلية العربية، وفي قلّة حيلته لاشاعة قيمه ودروسه على الشعوب العربية الأخرى.