التأخّر الأميركي في إعلان ردٍ على استهداف ناقتلي نفط مجدداً، يعزّز الاعتقاد في أنّ إدارة دونالد ترامب لم تكن تضع في حساباتها إحتمالَ اندفاع إيران الى الأمام. ولا شك في أنّ دويَّ الألغام البحرية التي استهدفت الناقلتين النروجية واليابانية، هزّ أروقة البيت الأبيض تماماً كما هزّ الدول الخليجية. وهذا ما دفع بصحيفة «واشنطن بوست» الى اعتبار أنّ ترامب وضع نفسَه في مأزق خطير، لتضيف أنّ خيار الحرب غيرُ موجود، لكن في الوقت نفسه ليس لدى ترامب طريقة سهلة للخروج من الأزمة التي افتعلها.
في الواقع إنّ صعوبة الأزمة تكمن في أنها تحمل وجوهاً عدّة وتحظى بحسابات معقدة تبدأ من الخليج وتمرّ في الحسابات الأوروبية والدولية وتنتهي في الاستحقاقات الأميركية الداخلية، وفي طليعتها استحقاق الانتخابات الرئاسية أواخر السنة المقبلة.
حين وصل رئيس الوزراء الياباني الى طهران كان الانطباع الدولي الغالب أنّ سكّة المفاوضات بين واشنطن وطهران تحرّكت وبدأت تؤتي ثمارها.
لكنّ مرشد الثورة الإيرانية السيد خامنئي كان قد حضّر لمفاجأة مدويّة. ذلك أنه لم يكن قد تلقى بعد أيّ مؤشر أميركي حسّي ايجابي كمثل العودة عن رزمة العقوبات المشدّدة التي أقرّتها واشنطن مطلع أيار الماضي وأدّت الى انخفاض انتاج النفط الايراني الى ما دون الـ 300 الف برميل يومياً، لا بل على العكس فإنّ دفعة جديدة من العقوبات صدرت لتطاول قطاع البتروكيماويات.
كان البيت الابيض يراهن على انهاك كامل للقرار الايراني نتيجة الواقع الاقتصادي المزري، ما يدفع طهران الى الدخول في مفاوضات من باب ضعيف جداً.
وكانت واشنطن قد قرأت منذ زمن بعيد بأنّ طهران لا تقفل باب المفاوضات، ولكن إدارة ترامب لم تفقه أنّ نظام الملالي في إيران لن يدخل هذه المفاوضات بأيّ ثمن كان.
في السابق فُهم تدخل مرشد الثورة شخصياً لإعادة وزير خارجيته عن قراره بالاستقالة، بأنه مؤشر واضح الى ابقاء أحد ابرز مفاتيح التفاوض جاهزاً وحاضراً.
ولاحقاً صدرت مواقف ايرانية، خصوصاً على لسان الرئيس الايراني نفسه إعتُبرت ايجابية في موضوع التفاوض، لكنّ إيران التي وضعت سقفاً لها لا يمكن العودة عنه بإعادة تصدير نفطها لما يفوق الـ 800 الف برميل يومياً كحدٍّ أدنى غير قابل للبحث، رأت انّ الظروف باتت تسمح لها بإبراز بعض مخالبها.
وخلال استقبال رئيس الوزراء الياباني تقصّد مرشد الثورة إظهار غضب بلاده عبر توزيع شريط مصور لحديثه. هو ركز هجومه على ترامب غير الصادق في كلامه ووعوده، لكنه قال أيضاً «أنّ أيّ شعب حرّ يرفض التفاوض في ظلّ الضغوط»، ولو أنه يرفض التفاوض المباشر.
وفيما كان كلام السيد خامنئي يصعق ضيفه الياباني كانت الألغام البحرية تستهدف ناقلتي نفط إحداهما يابانية.
صحيح انّ التفجيرَين الأخيرين هما اقوى بدرجة من التفجيرين السابقين، لكنهما بقيا دون مستوى إغراق الناقلتين. ما يعني انهما دُرِسا بدقة، لا بل اكثر فإنّ حركة الناقلات انطلاقاً من الموانئ الخليجية كانت مكشوفة امام الإيرانيين، على ما يعتقده ديبلوماسيون غربيون.
وقبل ذلك كان الحوثيون حلفاء الإيرانيين قد رفعوا مستوى تهديدهم للداخل السعودي من خلال الطائرات المسيّرة، ولكن ايضاً من دون الوصول الى الخط الاحمر. لقد استهدفوا هذه المرة مطار أبها.
كانت الرسالة الايرانية تقول: النفط مقابل النفط، وليس أبداً النفط مقابل المفاوضات. والرسالة الايرانية الثانية هي أنّ حرب الأشباح على وشك أن تبدأ.
وكما في المرة السابقة، فإنّ الجيش الاميركي أرسل الى وزير الدفاع بالوكالة ومن خلاله الى البيت الابيض انّ التفكير في مواجهة عسكرية في الخليج سيعني الدخول فوراً في حرب مفتوحة لا تصبّ في المصالح الاستراتيجية الاميركية، في وقت تمّ وضعُ احتواء التمدد الصيني في اولوية الاستراتيجية الاميركية.
لكنه اكد استعداد القوات العسكرية الاميركية حماية المصالح الاميركية في المنطقة. وكما فعل وزير الدفاع الاميركي السابق جيمس ماتيس عند تقديم استقالته بعد خلافه مع ترامب حول الشرق الاوسط، فإنّ الجيش الاميركي عمد الى تسريب بعض نقاط بيانه الى الصحافة، خصوصاً تلك المتعلقة برفضه الانزلاق الى الحرب.
وكما بدا خيار الرد العسكري مستبعداً فإنّ الرد عبر عمليات امنية لا يبدو ممكناً. فجهاز الاستخبارات الاميركي CIA تلقى هزات عدة، وشهد تبديلات متتالية لرؤسائه منذ وصول ترامب الى البيت الابيض. ما يعني انّ مجاراة طهران في «حرب الأشباح» لا يبدو فعالاً في الوقت الراهن. صحيح انه قد تكون هنالك قدرة على تنفيذ العمليات المشتركة مع بعض الجهات العربية، لكنها ستكون محدودة التأثير وستؤدي، على الارجح، الى نتائج عكسية لجهة توحيد كافة الفئات الايرانية وراء قيادتها.
لذلك تجد ادارة ترامب نفسها امام افق ضيق، ما دفعها الى الانكفاء والسماح للعراق باستيراد الغاز من ايران. هي خطوة جيدة ولكنها ما تزال غير كافية لتنشيط قنوات التفاوض غير المباشرة بين طهران وواشنطن.
في الواقع إنّ ترامب الذي باشر حملته الانتخابية بأرجحيّة شعبية لمصلحته، يدرك أنه سيواجه خصماً شرساً سيستغل إخفاقاته الكثيرة، خصوصاً على صعيد السياسة الخارجية. فهو فشل في كوريا الشمالية وفنزويلا ومع «صفقة القرن» وحليفه بنيامين نتنياهو مُهدَّد، وجاء الآن فشله مع ايران. اضف الى ذلك أنّ انتصاره الاقتصادي مُهدَّدٌ بدوره بعد دراسات وتوقعات باحتمال دخول الاقتصاد الاميركي في حالة ركود بحلول السنة المقبلة مع تسجيل تباطؤ في النمو، وحيث أُقيل أخيراً رئيس مجلس المستشارين الاقتصاديين في البيت الابيض.
المفاوض الايراني البارع بشهادة الاميركيين أنفسهم، يراهن على ضعف ترامب في سنته الانتخابية. فهو غير قادر حتى على الاقدام على قرار مجنون بالذهاب الى الحرب، وهو الذي بنى خطابه السياسي على رفض انزلاق بلاده في حروب الشرق الاوسط.
والاهم أن طهران لا تشعر بأنها وحيدة في مواجهتها مع ترامب، لا بل على العكس. فالاوروبيون الذين عارض بعضهم التسرع في اطلاق الاتهامات حول هوية مفجري الناقلتين، يكنّون عداءً شديداً لترامب ويتمنون توجيه صفعة له عبر ايران بغية اسقاطه انتخابياً. هو حاصرهم وهمّشهم على المسرح العالمي، وخرج من الاتفاق النووي من دون استشارتهم، ويريد العودة الى الاستئثار بالأسواق الايرانية من دونهم. وهنالك الصين وروسيا وغيرهما. وهناك الحزب الديموقراطي الاميركي ايضاً الساعي الى طرد ترامب من البيت الابيض والحلول مكانه، والذي يريد انتصاراً ايرانياً على ترامب لاستثماره في الحملات الانتخابية، على اساس أنّ ترامب أفقد واشنطن دورها العالمي.
في المقابل ليس امام ترامب سوى السعي الى بيع السعودية مزيداً من الاسلحة الدفاعية المضادة للصواريخ لحماية مطاراتها، وربما ايضاً «تلزيم» البحرية الاميركية حماية ناقلات النفط مقابل التزامات مالية. وليس امام ترامب ايضاً، سوى اعادة تنشيط ابواب التفاوض غير المباشرة مع طهران، ولكن بواقعية أكبر هذه المرة.