خلال الحرب الدائرة بين حركة حماس والعدو الإسرائيلي في غزّة، انتشر خبر في بعض وسائل الإعلان مفاده أنّ أحد مقاتلي حماس وجد على كومبيوتر “إسرائيلي” (لم يتم تحديد ماهيته) خريطة تبين حدود “إسرائيل” الكبرى. فما هي حقيقة هذه الخريطة التي تحدّد حدود “دولة إسرائيل الكبرى” التي يحلم “الإسرائيليون” بإقامتها منذ عقود، ليس فقط على الأراضي الفلسطينية المحتلّة وحسب، إنّما على أجزاء من بعض الدول المجاورة لفلسطين؟ علماً بأنّ هذا الحلم بات يبعد عن التحقيق أكثر فأكثر في ظلّ الحروب المتتالية التي تُضعف “إسرائيل”، ولا سيما عملية “طوفان الأقصى” الأخيرة التي كشفت هشاشة “الجيش الذي لا يُهزم”، وإن أدّت الى العدوان المستمر على قطاع غزّة. ويحاول العدو الاسرائيلي من خلالها تضليل الرأي العام واستعطافه بأخبار كاذبة وملفّقة، كما بتحوير الحقائق، على غرار ما فعل أخيراً بنكرانه قصف المستشفى الأهلي المعمداني الذي شكّل مجزرة غير مسبوقة، وجريمة حرب وإبادة جماعية، إذ أدّت الى استشهاد أكثر من 600 فلسطيني غالبيتهم من الأطفال والنساء، وبإلقاء المسؤولية عن غير وجه حقّ على الجهاد الإسلامي.. غير أنّ محاولاتها لن تبقى بمنأى عن ضمائر العالم المنادية بالحفاظ على حقوق الإنسان.
يقول السفير الدكتور بسّام النعماني المتابع لقضايا الحدود بين الدول، أنّ هذه الخريطة (المرفقة) هي إحدى الخرائط العبرية العديدة، وهي موجودة على شبكة “الإنترنت” منذ سنوات. وقد جرى نشرها من قبل أحد المواقع الإلكترونية حمل إسم livejournal.com، إلا أن هذا الموقع الألكتروني لم يعد بالخدمة. ولكن المهمّ بأنّ هذه الخريطة تصور منطقة “من النيل إلى الفرات”، أمّا تاريخ رسمها فغير معروف، ولكنها على الأرجح خريطة حديثة العهد.
وأوضح أنّ الكثير من الخرائط حول “إسرائيل الكبرى” يتفاوت رسم حدود المطامع الصهيونية فيها من واحدة إلى أخرى، وسبب ذلك هو لأن المصطلحات الجغرافية العبرية الموجودة في التوراة لم يعد الكثير منها مستعملاً في العصر الحديث (مثلاً صحراء النقب في الخريطة تسمى “كادش- برناعي”، وترجمتها هي على الأرجح “أرض التطهير المقدسة”، وصحراء سيناء تسمى “صحراء التيه”، وصحراء النفود قد سميت “صحراء عرب”، بينما سميت بادية الشام بـ “الصحراء القديمة”، وهو مصطلح فضفاض بعض الشيء، ويمكن تطبيقه على أماكن أخرى). ثم إن حدود “إسرائيل” في التوراة، أو “أرض المعاد”، أو “الأرض المقدسة”، أو “الأرض” التي وُعد بها الأنبياء إبراهيم وإسحق ويعقوب وسلالالتهم، تتناثر في أماكن مختلفة في التوراة، ويُستعمل فيها تعابير جغرافية بعضها ممكن التعرف عليه واستبيانه، وبعضها الآخر بات مبهماً وغير معروف أو إندثر.
ولأنّ الخريطة نُشرت باللغة العبرية، عمد السفير النعماني الى فك “شيفرتها الخاصة”، وقام منذ سنوات (عندما اكتشف وجودها على الموقع الإلكتروني) بترجمة سائر المصطلحات الجغرافية العبرية إلى اللغة العربية، (وتظهر الترجمة في الخريطة الثانية المقابلة تسهيلاً للقارئ). علماً بأنّ سيدة فلسطينية في مؤسسة “الدراسات الفلسطينية” في بيروت متخصصة باللغة العبرية هي التي ساهمت في ترجمتها، ما يعطيها مصداقية أكبر. وتجدر الإشارة الى أنّ العبارات العبرية التي أتت بحجم طباعة صغيرة، لم تتمكّن المترجمة من قراءتها بشكل واضح بما فيه الكفاية لكي تتمّ ترجمتها. وقد نشر الخريطتين بشكل متقابل في مدونته على “الفيس بوك” ضمن مجموعة “خرائط التاريخ العربي والإسلامي”.
وما يثير الدهشة، وفق النعماني، أنّ ثمّة تعابير جغرافية غير معروفة في هذه الخريطة. فمن ناحية تشير في عنوانها إلى “حدود الأسباط الإثني عشر”. ومن المعروف بأن حدود الأسباط عندما دخل النبي يوشع إلى فلسطين معروفة ومرقمة ومحددة بشكل دقيق في التوراة، ولكنها ليست حدود “إسرائيل الكبرى”، فهذا موضوع مختلف بالكامل، ولعله هو السبب الذي لأجله عُنونت الخريطة بـ “معضلة الحدود”، أي أنّ هنالك إختلاف بين حدود الأسباط وحدود “إسرائيل الكبرى”. وفي هذا السياق، فإن الساحل بين أنطاكية والإسماعيلية، سميت بـ “أرض القبائل التسعة” (والأصح هو الأسباط التسعة)، من دون توضيح تاريخي لهذا المصطلح، لكن من المعروف تاريخياً بأن عدداً من الأسباط إندثر لأسباب مختلفة، ومنها السبط “العاشر” الذي استوطن الساحل الفينيقي (أي اللبناني). ولعله لهذا السبب، فإن الكثير من الخرائط الصهيونية الحديثة لا تضع الساحل الفينيقي اللبناني ضمن مطالبها التوسعية، التي طالبت بها في مؤتمر السلام في باريس في 1919، وتوقفت مطالبها هذه عند حدود نهر الليطاني. لكن المعلومة الأهم في هذه الخريطة تبقى بأن المنطقة كلها بين النيل والفرات قد أشير إليها بـ “أرض إسرائيل”.
ولفت الى أنّه عند الحديث عن تفاوت الحدود في رسم خريطة “من النيل إلى الفرات” بين مختلف مفسري التوراة أو الخبراء الجغرافيين الصهاينة، فإن هذا يعني بأن مطامع “الدولة العميقة الإسرائيلية” غير معروفة أو محددة بشكل واضح. ويمكن إستنباط هذه الخلاصة من عنوان هذه الخريطة وهو “معضلة الحدود”. ومسائل الحدود تثير دائماً الكثير من اللغط والنقاش والتفسيرات المتباينة. فعلى سبيل المثال المصطلح التوراتي يشير إلى “نهر الفرات” ولكنه لا يذكر “نهر النيل”، وإنما يشير إلى “ترعة مصر the Brook of Egypt”. ويختلف المفسرون التوراتيون والجغرافيون الصهاينة أين هي هذه “الترعة”؟ فمنهم من يضعها كنهر صغير (إندثر عبر التاريخ) في صحراء سيناء بالقرب من العريش، ومنهم من يضع “الترعة” في الدلتا المصرية. ولهذا، فإنه إذا كان اليمين “الإسرائيلي” المتطرف الحاكم ما زال يتحالف مع الأحزاب الدينية، فإن مثل هذه الخرائط ستظل تلعب دوراً كبيراً في تأطير الاستراتيجية الإسرائيلية على المدى البعيد.