يعتقد مراقبون ومتابعون سياسيون، انّ مستقبل «تفاهم مار مخايل» بين «حزب الله» و«التيار الوطني الحر» بات في ضوء التطورات الاخيرة، محل تساؤل، لأنّه للمرة الاولى تصل العلاقة بينهما إلى هذه الدرجة من الحديّة. إذ انّ ما حصل لم يعد مجرد تكهن، انما طاف الى السطح، وجعل هذه العلاقة مهدّدة فعلاً بالسقوط، لأنّ الامر قد تخطّى التباين السياسي ليطاول عمقها ومرتكزاتها وفوائدها وأهمية بقائها من زوالها.
ويسجّل المراقبون في هذا الاطار الآتي:
اولاً- انّ هذا التفاهم هو من التفاهمات التاريخية التي نشأت بين حزبين سياسيين كانا متباعدين، وقد استمر لمدة زمنية طويلة، أعطت نتائجها في البعد الاستراتيجي، وكان بالإضافة إلى القوى الحليفة له، قوة في تدعيم الخط المقاوم في لبنان.
ثانياً- نشأ هذا التفاهم بين العماد ميشال عون والامين العام لـ«حزب الله» السيد حسن نصرالله عام 2006، بعد الخلاف الذي نشب بين أحد قيادتي فريق 14 آذار في حينها، وهما الرئيس سعد الحريري وريث الرئيس الراحل رفيق الحريري، والعماد عون العائد من المنفى الباريسي، وكان سببه انّ دفّة قيادة هذا الفريق قد أُنيطت دولياً بالحريري. إذ انّ خروج رئيس حزب «القوات اللبنانية» الدكتور سمير جعجع من السجن، وعودة عون من المنفى، وتزعيم الحريري على فريق 14 آذار، جاءت بفرمان دولي واحد.
ثالثاً- انّ هذا التفاهم، وإن اعطى المقاومة غطاءً مسيحياً عبر كل من «التيار الوطني الحر» والغطاء الآخر الذي كان متوافراً اصلاً ممثلاً بتيار «المردة» وحلفاء آخرين، فإنّه لم يكن مانعاً لمحاولات اسرائيل القضاء على المقاومة، وانما كان ذو بعد معنوي وطني ليس إلاّ، لأنّ قوة المقاومة في جهوزيتها.
رابعاً- انّ اول المطبات التي واجهت هذا التفاهم تمثل بحرب تموز 2006، التي كانت بمثابة حياة او موت بالنسبة إلى «حزب الله»، وقد شكّلت الايام الاولى لهذا العدوان المعيار الأساس للثقة بالمقاومة، ودلّت المعلومات يومها، أنّ عون كان مؤمناً بالنصر، بينما باسيل كان متردّداً ومنتظراً للتطورات، إلّا انّ عون اعلن الدعم للمقاومة في الايام الاولى للحرب.
خامساً- انّ العملية السياسية التي انطلقت بعد انتهاء حرب 2006 شهدت مواجهة سياسية نارية بين «التيار الوطني الحر» وكل من «القوات اللبنانية» وتيار «المستقبل» والحزب «التقدمي الاشتراكي»، على خلفية النفوذ السياسي في الحكم. فكان أن وقف «حزب الله» سداً منيعاً في وجه خصوم «التيار الحر» بهدف إحداث التوازن في العلاقة بين عون وخصومه. وكل ذلك حصل تحت شعار إعادة الحقوق إلى المسيحيين، التي يرى البعض انّها هُدِرت بعد «اتفاق الطائف»، وقد عرف لبنان على إثرها بدعة الفراغ الدستوري عبر تعطيل الحكومات، حيث وصل الامر بالبعض إلى حدّ اعتبار انّ حماية حقوق المسيحيين تكمن اولاً بتوزير جبران باسيل في الوزارة التي يرغب بها استناداً إلى درس اهميتها.
سادساً- عند كل هذه المواجهات لم يحصل «حزب الله» على أي مكاسب سياسية في الادارة او أي مكاسب معنوية لجهة بقاء المقاومة. إذ انّ هذا الاستمرار قد تعمّد بالدم بعد حرب 2006، وسقطت مقولة تسليم سلاح الميليشيات التي عبّر عنها البند الثاني من القرار1559، وبالتالي لم تعد هناك مطالبات حقيقية بتسليم «حزب الله» لسلاحه خصوصاً بعد تفاهم الـ «سين ـ سين» الشهير الذي حمى بطبيعته مقاومة لبنان ضدّ اسرائيل، خصوصاً في ظل الفورة الاقتصادية الكبيرة التي عاشها لبنان عام 2010.
سابعاً- انّ كل الخصومات السياسية التي حصلت بين «حزب الله» وبعض القوى السياسية في لبنان كانت في غالبيتها لأسباب تتصل بمصالح حلفائه، ولا سيما منهم «التيار الحر». في حين انّ نشوب الحرب السورية ودخول «حزب الله» طرفاً فيها، قد عارضه باسيل من خلال تصريحه الشهير بأنّه لا يؤيّد قتال «حزب الله» خارج الحدود اللبنانية.
ثامناً- رغم كل ذلك، شهد لبنان تعطيلاً لانتخابات الرئاسة لم يسبق له مثيل في تاريخ لبنان، وذلك بهدف إيصال عون الى رئاسة الجمهورية، وكان الشعار هو إيصال ممثل المسيحيين الى سدّة الرئاسة، اي انّ «حزب الله» قد رفع شعار إشراك المسيحيين في القرار السياسي، وذلك بعد ان كان رئيس الجمهورية في لبنان يأتي نتيجة تسويات خارجية على حساب الرأي العام المسيحي. وقد استند «حزب الله» في هذه المعركة على ما صدر من قرار مسيحي عن اللقاء الرباعي في بكركي عام 2014 بين كل من عون والرئيس امين الجميل والدكتور سمير جعجع ورئيس تيار «المردة» سليمان فرنجية، حيث انتهى اللقاء إلى قرار تلخّص بوجوب انتخاب «رئيس ينبثق من الوجدان المسيحي ويكون مقبولاً وطنياً، وان يكون من بين القيادات الاربعة المجتمعة في بكركي».
تاسعاً- كان من قبيل المستحيل عام 2014 انتخاب عون رئيساً للجمهورية، فأصبح في العام 2016 رئيساً للجمهورية من قبيل التأكيد، بعدما كان يعارضه المجتمع الدولي برمته والمجتمع الاقليمي بغالبيته والمجتمع السياسي اللبناني بتعدديته. وبطبيعة الحال، كان لقوة «حزب الله» النصيب الاكبر في إحداث هذه «العجيبة السماوية» على الرغم من الدعم الدولي الاقليمي والمحلي الذي توافر لحليف المقاومة سليمان فرنجية، وهذا ما اكّد عليه السيد نصرالله في اطلالته الاولى بعد انتخاب عون حيث قال ما معناه، انّ فرنجية كان يمكن ان يُنتخب رئيساً للجمهورية لو حضر الجلسة الانتخابية، ولكنه تمنّع عن حضورها مفضلاً تحالفه الاستراتيجي على الرئاسة. واضاف قائلاً: «انّ هذا الرجل يؤتمن على شعب وعلى دولة وعلى مقاومة».
عاشراً- في عهد عون الذي انطلق بالتسويات مع اطراف المنظومة التي يتحدث عنها اليوم في كل إطلالة اعلامية، ولكن على وقع التسويات حصل ما حصل من انفجار للوضع الاجتماعي والسياسي في وجه رئيس الجمهورية، ووصل الامر الى حدّ «المؤامرة»، كما وصفها باسيل اخيراً خلال محادثاته في قطر، عندما سُئل عن احد الاسماء المرشحة لرئاسة الجمهورية، الّا انّ «حزب الله» في حينه قد وقف سداً منيعاً في وجه من كالوا الشتائم لباسيل على مستوى لبنان من أقصاه الى أقصاه، حيث انّ الثورة التي حصلت لم تكن في وجه «الحزب» وانما في وجه الطبقة السياسية الحاكمة. وقد صدرت في حينه عقوبات على باسيل وفق قانون «ماغنيسكي» المتعلق بالفساد وليس وفق قانون «اوفاك».
حادي عشر- إنفجر مرفأ بيروت نتيجة فرضية الاهمال بالدرجة الاولى، فكان ان تمّ تحويل القضية قضية مسيحية وليس وطنية، بعدما فرضت وزيرة العدل آنذاك ماري كلود نجم المحسوبة على رئيس الجمهورية، أن يكون المحقق العدلي مسيحياً، فبدأت المزايدات بين «التيار الحر» و«القوات اللبنانية» على من يدعم المحقق العدلي طارق البيطار اكثر، رغم تحفظات «حزب الله» وملاحظاته على أدائه. فحصل ما حصل من أحداث وخصوصاً سقوط عشرة قتلى في حادثة الطيونة، وأخذت الأحداث شكل مواجهة بين الشيعة والمسيحيين. فلو كان اداء «التيار الحر» موضوعياً يومها واستمع الى هواجس قيادة «حزب الله» وأخذ بها رئيس الجمهورية، لكانت المواجهة انحصرت بين السلطة التنفيذية والقاضي الذي عيّنته. وهذا الامر قد وضع «الحزب» في مواجهة الجمهور اللبناني بأكثريته من دون وجه حق على ابواب الانتخابات النيابية. ولكن هذا الامر لم يزعجه وذهب إلى عكس ما توقّع كثيرون، داعماً كتلة باسيل النيابية ورافضاً ان تكون اقل عدداً من كتلة «القوات».
ثاني عشر- جاءت الانتخابات الرئاسية الجارية التي تفترض أن تبقي الرئيس من حصة فريق 8 آذار، فكان المنطق هو الذهاب الى ترشيح فرنجية، لأنّ ترشيح باسيل بات مستحيلاً بفعل عوامل متعددة ومعروفة، وقد شدّد عليها بنفسه، مجيباً عن سؤال محاوره في احدى إطلالاته الاعلامية، بقوله «شو شايف ما عندي راس».
إلّا انّ باسيل رفض ترشيح فرنجية رغم تأييد «حزب الله» له، لأنّه يرى في هذا الترشيح مرتكزاً سياسياً مهماً قابلاً للتحقق بنسبة عالية، نظراً لعدم الممانعة الخارجية لفرنجية، والباب المفتوح سعودياً امام امكانية حل يأتي به وقبول اسلامي داخلي عريض به، بالإضافة إلى انبثاقه من «الوجدان المسيحي» الذي حدّده لقاء بكركي عام 2014، فضلاً عن ابلاغ بكركي الى «حزب الله» في الآونة الاخيرة قبولها بفرنجية رئيساً.
لكن باسيل عارض ذلك بشدة من دون استناد الى اي أسس موضوعية او استراتيجية كان «حزب الله» قد عرضها امامه، لا بل انّ باسيل ذهب بعيداً الى حدّ التلويح بالمواجهة المفتوحة مع الحزب، ضارباً عرض الحائط كل الاعمال المشتركة التي استفاد منها قبل غيره، مشككاً بالصدق الذي لطالما اشتهرت به قيادة الحزب، حتى ولو انّه عاد عن هذا التشكيك في اطلالته الاعلامية الاخيرة، الّا انّ تبريره لم يكن كافياً، لأن ليس من السهولة توجيه الاتهام والعودة عنه بهذه الطريقة. فمنطق التحالف يفترض الأخذ والردّ والتفاهم والتفهم والعودة الى الابعاد الاستراتيجية الوجودية، وليس إبداء الرغبات الشخصية على ذلك، رغم انّ وصول فرنجية الى سدّة الرئاسة لا يضرّ باسيل على الاطلاق كما اعترف هو شخصياً في بعض اطلالاته. الّا انّ ربط معارضته انتخاب فرنجية بعدم قدرته على قيادة الاصلاح في البلاد لا يستقيم مع المنطق، خصوصاً انّ ما شهده لبنان في عهد عون من مآسٍ لم يشهدها في اي عهد حتى في زمن الحرب الاهلية.
ثالث عشر- انّ السيناريو المنتظر في المرحلة المقبلة سيكون متأثراً باهتزاز العلاقة بين «التيار» و«حزب الله»، اذ انّ ترشيح فرنجية قد اخذ مداه في كل الاوساط، وبدأت ملامح نجاحه تطغى على ما عداها. في حين انّ «التيار» لا يزال يذهب بعيداً في معارضته ذلك، متناسياً انّ خيارات وصول فرنجية هي متعددة وواسعة.
رابع عشر- حسب كل المعطيات والمؤشرات، انّ «حزب الله» حريص على «تفاهم ما مخايل»، وسيسعى جاهداً الى الحفاظ عليه، ويبقى ان يتواضع «التيار الحر» في مقاربته لملف رئاسة الجمهورية، وان يسعى للحفاظ على العلاقة مع «الحزب» لما فيها من ضمان لمستقبله ومستقبل حضوره المسيحي والوطني، اذا ما عدنا الى الشعار الذي رافق انطلاق العلاقة بينهما.