رسَم رئيس حزب “القوّات اللبنانيّة” سمير جعجع خلال خطابه في ذكرى شهداء “المقاومة اللبنانية” خطّاً جديداً في مسار الحزب السياسي، عنوانه الأساسي “لا مهادنة مع أحد”.
نجحت “القوّات” كما كل عام في إبراز قدرتها التنظيميّة في مثل هكذا إحتفالات، إذ أنّ هذا الأمر مهمّ جدّاً بالنسبة إليها، وقد برعت فيه منذ تأسيسها وتحرص القيادة على الإستمرار في هذه الصورة التنظيميّة.
وإذا كان جعجع يُعطي هذه الذكرى أهميّة كبرى من الناحية الوجدانية، فلأن من استشهدوا كانوا رفاقاً له، تدرّبوا سوياً، قاتلوا الكتف على الكتف، خصوصاً أن جعجع كان معروفاً بأنه ينزل إلى الميدان ولا يترك “جنوده” في المعركة لوحدهم.
قالها جعجع بالفم الملآن، أنه “لولا شهداء القوات لما كنّا هنا ولا كانت معراب ولا كانت بعبدا”، وفي هذه الجملة رسائل إلى الداخل القوّاتي أولاً بأن الشهداء والشهادة أساس في سجلّ معراب، وعلى أفراد القيادة القواتية والمحازبين أخذ هذا الأمر في الإعتبار دائماً.
أما الرسالة الثانية فهي إلى المجتمع المسيحي وإلى الزعامات المارونية الأخرى، ومفادها أن شهداء “القوات” هم من حموا بعبدا والشرعيّة، ولولاهم لطارت الجمهوريّة ولم يعد هناك كرسي رئاسة يتقاتل البعض عليها. لذلك، فإن “القوات” شريك أساسيّ في تحديد بورصة الرئاسة.
إعترف جعجع أمام الجميع، وأكّد المؤكّد، أن “إتفاق معراب” أصبح من الماضي لأن “التيار الوطني الحرّ” تنصّل منه، وإذا كان الأساس بحسب قوله أنّ هذا الإتفاق هو اتفاق شراكة بين أكبر حزبين مسيحيين وليس محاصصة، فقد بات الجميع يعلم أن هناك اتفاقات نُسجت أثناء تعبيد العماد ميشال عون طريقه إلى بعبدا أقوى من “إتفاق معراب”، ولعل أبرزها تفاهم “مار مخايل” بين “التيار الوطني الحرّ” و”حزب الله” والتفاهم بين التيار البرتقالي والتيار الأزرق.
ولم تقتصر رسائل جعجع على الخصوم بل وجّه سهامه في جميع الإتجاهات خصوصاً في موضوع عزل “القوات”، وهو يعلم جيداً أنّ “التيار الوطني” و”حزب الله” و”8 آذار” لا يستطيعون وحدهم عزل “القوات”، ولا يحصل هذا الأمر إلاّ بوجود تواطؤ من بعض الحلفاء وعلى رأسهم تيار “المستقبل”، فأصابت سهام معراب “بيت الوسط” من دون أن تسمّيه.
ولأن جعجع، ابن بشرّي، متأثّر بالكاتب والأديب العالمي ابن بلدته جبران خليل جبران، فقد استعار جملته الشهيرة “لكم لبنانكم ولي لبناني”، وقصف جبهة العهد والجبهات المعادية، مؤكّداً أنه “لنا لبناننا، ولهم لبنانهم، لنا جمهوريّة الأرز وأكاليل الغار، ولهم جمهورية الموز وعروش العار. لنا حزب آلاف الشهداء، ولهم حزب مليارات الصّفقات وصفقات المليارات. لنا القوة بجيشنا اللبنانيّ، ولهم استقواؤهم بعضلات خارجيّة، حافظنا على الشّرعيّة عندما دقّ الخطر على أبواب الدّولة، وهم وبكلّ بؤس ووقاحة يسخّرون الشرعيّة لخدمة الدويلة في زمن قيام الدّولة”.
من يراقب خطابات جعجع ومواقفه ومحطاته لجهة العلاقة مع عون، يُدرك تماماً أن التاريخ يُعيد نفسه، ففي العام 1988 ترأّس عون الحكومة الإنتقالية بعد الفراغ الرئاسي وانتهاء ولاية الرئيس أمين الجميّل، فظنّ الجميع حينها أن تفاهم عون – جعجع سيستمر، إلا أن حرب الإلغاء التي شنّها عون على “القوات” إنتهت بكارثة على المجتمع المسيحي.
بالأمس وقف جعجع أمام عوائل الشهداء والحضور الرسمي والشعبي مواجهاً حرب “الإلغاء” الجديدة التي يشنّها العهد على “القوات”، وقدّ تجلّت بإشارة رمزية من خلال عدم إرسال رئيس الجمهورية ممثّلاً عنه إلى القدّاس، وقف جعجع وقال: “تمّ الإنقضاض على اتفاق معراب والتنكّر له والتنصّل من موجباته، وكأنّ الطرف الآخر أراده لمجرّد الوصول إلى الرّئاسة، ومن بعدها فليكن الطوفان”.
لا يمكن القول بعد خطاب جعجع إلا أن الجرّة مع العهد قد انكسرت، خصوصاً بعد الهجوم الكبير الذي شنّه عليه، وهذه المرة توجّه له بالمباشر، معتبراً أنه عهد “لم يكن على قدر آمال الشعب، وسط انتشار الفساد والسمسرات والوضع الإقتصادي الرديء، والدويلة التي تبتلع الدولة”.
في السابق، حاولت “القوات” فصل العلاقة مع عون عن العلاقة مع الوزير جبران باسيل، لكن خطاب جعجع الأخير كسر هذا الأمر، وقالت “القوات” الحقيقة المرّة بنظرها: “باسيل = العهد”، وهذا الأمر جعل جعجع يستطرد أكثر متحدّثاً عن الأرانب التي اعتبر أنها “مهما ركضت وقفزت وافتعلت بهلوانيّات، تبقى مجرّد أرانب، وتبقى القوات هي الأساس”.
قصف جعجع الجبهات الداخليّة التي يعتبر أنها تُهدّد وجود الدولة، دون أن ينسى الأساس، وهو الخط الإستراتيجي وعدم السماح لإيران بوضع يدها على الدولة، وعدم السماح لدويلة “حزب الله” بالتمدّد أكثر وأكثر وابتلاع الدولة.
وفي حين تزامن القدّاس مع ردّ “حزب الله” على إسرائيل، قال جعجع: “لا نفهم وفق أيّ أسس ومعايير يريد أحد الأطراف اللبنانيين اليوم الزجّ بلبنان وشعبه، و”يمكن زجه وخلص”، في أتون المواجهة بين الولايات المتحدة وإيران؟ من غير المسموح أن يُفرض على اللبنانيين أمر واقع بهذه الخطورة، ومن غير المقبول أن يوضع لبنان أمام احتمال حرب مدمّرة لا ناقة له فيها ولا جمل. وماذا يبقى أصلاً من هيبة الدّولة ومن مقوّمات العهد القويّ، إذا كان القرار الاستراتيجيّ الأوّل والأخير في يد أطراف خارج مؤسّسات الدّولة، والدولة تبصم وتمشي”.
لا شكّ أن عزل “القوات” أمر يتمنّاه كثر، لكن في الواقع فإن جعجع بعد خطاب القدّاس أصبح على تماس مباشر مع العهد، حتى لو صعد إلى قصر بعبدا وشارك في اللقاء الإقتصادي، إلا أنّ الوضع ليس في أحسن أحواله، فمواجهته العهد تضعه أمام معارضة في قلب الحكومة. مهمة المعارضة في هذا الزمن ليست سهلة، خصوصاً أن العهد مدعوم من “حزب الله” الأقوى على الأرض، كذلك، فإن علاقته مع الرئيس سعد الحريري ليست في أحسن أحوالها، ولا يستطيع الحزب “التقدمي الإشتراكي” السير في كل الملفات مع “القوات”.
وينتظر الجميع كيف ستتطوّر الأمور خصوصاً أن “القوات” التي فتحت مواجهة داخلية مع العهد وحلفائه، ومواجهة على المستوى الإستراتيجي – الخارجي مع “حزب الله” والمحور الإيراني، تقف شبه وحيدة في هذه المعارك، لكن كل ذلك جعل جعجع يتمسّك أكثر فأكثر بمواقفه… حتى قيام الدولة.