IMLebanon

«ماراتون» المعاينة الميكانيكية يتواصَل ساندويشات، مجفّف، مشاوي… والشبّيحة

ساندويش، معجّنات، حلويات خالية من الكريمة، فاكهة مجفّفة، شاحن للهاتف… هذه عَيّنة من المستلزمات الأساسية التي بات يَصطحبها المواطنون معهم في رحلةِ المعاينة الميكانيكية الشّاقة، إذ يَمضي الصباح، ويأتي الظهر وقد يحلّ المساء وهم ينتظرون دورَهم لساعات… «إذا رِحنا نجيب غرَض منِخسَر دورنا» على حَدّ تعبير أحدِهم.

ماراتون من نوع آخر يُشارك فيه اللبنانيون منذ بَدء تطبيق قانون السير الجديد، والإعلان عن غرامات ماليّة بحقّ المخالفين في المعاينة الميكانيكية، تصل إلى 3 ملايين ليرة مع حجزِِ للمركبة وحَبسِِ مِن شهر حتى سنتين.

بين تسونامي بشَري، أو مظاهرة شعبية، يَحتار سكّان منطقة الحدث الذين يعيشون في محيط مركز المعاينة، في توصيف مشهد الأمواج البشرية التي تجتاحهم يومياً، والتي بلغَت ذروتها قبل يوم من تطبيق القانون.

وبعد نحو أسبوع على تطبيقه، كيف يبدو مركز المعاينة ومحيطه؟ ماذا عن حال المواطنين في أرتال السيارات المنتظرة؟ لماذا كلّ هذا الضغط والتأخير؟

قبل حضور الموظفين

منذ السادسة والنصف صباحاً يبدأ المشهَد يكتمل تِباعاً في محيط مركز المعاينة، شَباب يفتحون كاراجاتهم، آخرون يتوزّعون في الأزقّة المؤدّية إلى المركز، ولتبدوَ الأمور على خير ما يرام، والأجواء هادئة، والنفوس مستكينة، لا بدّ مِن نرجيلة يَتناوب عليها الشبّان على مقربةٍ مِن حاجز أمنيّ.

عند السابعة، يبدأ المواطنون بالتوافد في سياراتهم. بين احتساء القهوة، الاستماع إلى أبراج اليوم، نشرات الأخبار، حال الطرُق، حصيلة حوادث السير الليلة الماضية… ينتظرون أن يَفتحَ المركز أبوابَه ويستقبلهم قرابة السابعة والنصف.

وحدَها أصوات المحطّات الإذاعية تصدَح في الأرجاء. ما إنْ يُسمَع الزمّور الأول على المنعطف حتى يستنفرَ عدد من الشبّان الذين توزَّعوا في الزوايا، فيتركون ما في أيديهم، محاولين اصطيادَ صاحب الزمّور، «إستاذ كيف فينا نساعدك؟»، «دوموزيل أنا بخلّصلك سيارتك»، «ميكانيكَك ترِكو عليّي»… وغيرها من العبارات التي تُخجِلك وتدفعك لوهلةٍ إلى أن تُعطيهم مفتاح سيارتك وتوفّر على نفسِك مشَقّة الانتظار.

وحدَهُ شابٌّ، سمسار، حنطيّ البشرة، أحمر الوجنتين، متوسّط البنية، يَقف تحت لوحة المعاينة قربَ الطريق العام، غالباً ما يتوفّق في اصطياد المواطنين. لدى مرورنا قربَه أومأ لنا بيمينه، «وقِّف شوَي»، فتمَهّلنا، لنسمعَه يعرض علينا إنجاحَ السيارة في الميكانيك، أمّا عن الكِلفة، فأجاب بنبرةٍ واثقة: «مَشِي 10 دقايق بعشرين ألف».

أكملنا طريقَنا وإذا بسمسار آخر، يُسمِعنا عرضَه، «مِنزَبّطا بـ 10 آلاف، كرمالكن». تَكثر الحسابات، وتَطول الصفقات، بين تمرير سيارات غير صالحة للسير، إلى إعارة المواطنين قطع مستعملة… الشريط عينه يتكرّر منذ سنوات، من دون أن يتعكّر صَفو أرباح السماسرة.

تنشَط الحركة في محيط المركز ما إنْ يفتح أبوابَه وتتّسع حركة المواطنين، أسرابُ سيارات تدخل، وأخرى يضَع أصحابها عليها اللمسات الأخيرة تحَسُّباً لطلب إعادة المعاينة. وما هي إلّا دقائقُ معدودة حتى يَصل صفّ الذكور الذين ينتظرون أخذَ وصلٍ يخَوّلهم الانتقالَ إلى مرحلة فحص سياراتهم، إلى خارج الغرفة المخصَّصة لاستقبالهم. أمّا عند الإناث فنادراً ما تسجّل أيّ زحمة.

يكفي الوقوف دقائقَ حتى تكتشف حياةَ جميع الحاضرين، هذا يتأفّف لتأخّرِه عن عمله، آخر يَستذكر ديونَه، عجوز يُسَلسِل ما يعانيه من أمراض… أمّا الجميع فيُجمعون على الوضع المذري للطرُق. تمرّ الساعة الأولى، ومَن كان خارجاً، تحت وطأة الشمس، تحسَّن وضعُه وبات داخل الغرفة، إذ يكتشف أنّ عدد الموظفين لا يتجاوز عدد أصابع اليدين، مقارنةً مع المواطنين، فيتحَنّن قلبُه، ويكبح تأفّفَه.

أمّا مَن وصل ببرودة أعصاب، غير منتبه إلى أنّ صفّ الانتظار يمتد إلى الخارج، وحاوَل الدخول متخَطّياً الصف، فتكون له ملاحظة أحد المنظّمين بالمرصاد، «يا حلو هون ما في خطّ عسكري، هون في دور»، ليمنعَ أيّاً كان من التفكير في تجاوز الصف.

أمّا إذا انقطع الرجال مِن تبادلِ أطراف الحديث، فيستديرون يَسألون بعضهم، «إنت أيّ ساعة جيت؟»، «وإنت أدّيش إلَك هون»، متأمّلين عقاربَ ساعاتهم، ويبقى مَن سَجّلَ الوقت الأطول من الانتظار، المضَحّي الأكبر في عيون الحاضرين.

«عطِشنا و جِعنا وشَوَّبنا»

بَعد استلام المنتظرين «البُون» وتوزّعِهم على مداخل الكاراج، تبدأ رحلة أخرى، وهنا يكتسبُ الانتظار طعماً مغايراً، فيتحدّث الشيخ ملاعب من بيصور لـ«الجمهورية» متأفّفاً: «ساعتين إلّا ربع حتى أخذت الوصل، ومن جديد أنتظر دوري لإجراء المعاينة، لا شكّ في أنّنا جُعنا، وعطشنا، والشمس كوَتنا».

يتوقّف عن الكلام، ويَعرض علينا الشربَ مِن «ترمُس» خزّنَ فيه المياه، مقدّماً بعضَ البَلح المجفّف والجوز في علبة جَلبَها معه زاداً. ويتابع: «توقّعتُ أن تعفي الدولة مواطنيها من المعاينة في ظلّ انتشار الحفَر وغياب الإنارة… «تعتير على المواطن»، ما من سيارة إلّا وبدّا أمورتسّرات وبيضات…».

المشهد عينُه تكرَّرَ مع إبن بشامون، إلّا أنّ الطبق اختلفَ، فهو يفضّل تناولَ اللوز المحمّص، ولو أنّ وقتَ الغداء اقترب، فيقول: «بالمَيتي «بقالنا» 3 ساعات ناطرين، بَس ما فينا نقول شي، الشباب عم يِشتِغلوا».

أمّا العَمّ بركات القادم من جبيل، فيصعب عليه ضبط ضحكتِه، «بَورَد قلبي بَس قرَّبْت من الباب، 5 سيارات ويَحين دوري». أمّا شربل من كسروان، فلم يَجد حَلّاً إلّا أن يصطحب ابنةَ جارتِه معه، علّها تنجَح في تسريع أمرِه، «هذه المرّة الخامسة التي أحضُرُ فيها لتمرير سيارتي، «كعِيت»، لذا اصطحبتُ ابنةَ جيراننا، «النِسوان دايماً بتهون ع دورُن»…».

وحدَهما شابَّتان من الدكوانة، لم تشعرا بثِقل الانتظار، بعدما استسلمَ أحدُ الشبّان لحالة الانتظار، فقرّر إطفاءَ سيارته، والاقترابَ منهما، سائلاً ما إذا كان بوسعِه التعرّف إليهما… ووسط أجواءٍ من الابتسامات المتبادَلة والضحِك، ارتفعَت الزمامير، «يا أخي صِفّ عَ جنَب، وسَيسِرنا».

لِمَ كلّ هذا الضغط؟

خوفاً مِن الغرامات، إستباقاً للقانون الجديد، قِلّةُ دراية، أسباب جَمَّة تَدفَع المواطنين للتهافت باكراً إلى المعاينة، حتى قبل فتح باب الاستقبال، ممّا يزيد الضغط على المداخل، ويعرقل آليّة العمل قبل انطلاقها. في هذا الإطار يؤكّد مصدر في قوى الأمن الداخلي لـ«الجمهورية»، «أنّ حالاً من الارتباك أصابَت المواطنين كافّةً تزامُناً مع القانون الجديد، إلى حدّ أنّهم لم ينتبهوا إلى وجود مواعيد محدّدة لفحص سياراتهم، فاختلَط مَن جاء «ع صحّة السلامة»، مع من أراد تسوية أوضاعه مع مَن أصلاً حانَ موعد معاينة سيارته، فبدا المشهد خارجاً عن المألوف». ويؤكّد المصدر: «لن نبدأ بغرامات المعاينة قبل حزيران، بذلك نمهِل المواطنين لتسوية أوضاعِهم، وبالتالي نخفّف من حدّة المشهد».

في موازاة ذلك، أعلنَت هيئة إدارة السير والآليات والمركبات، عن تمديد العمل في كلّ مراكز المعاينة الميكانيكية، استثنائياً، لغاية الساعة الثامنة مساءً.

من جهته يؤكّد رئيس مجلس الإدارة المدير العام لمجموعة «فال» المتعهّدة معاينة السيارات في لبنان وليد سليمان، «أن لا داعيَ لهذا التهافت، لأنّ مواعيد إجراء الفحوصات لا تزال كما هي، ولكلّ سيارة موعدُها الشهري خلال السَنة، لذا يكفي التقيّد بالمواعيد الشهرية وعدم التأجيل منعاً للتسبّب في تأخير مواعيدهم ومواعيد غيرهم»، مشيراً إلى أنّ «مرَدَّ الزحمة خوفُ المواطنين من قانون السير الجديد، ولا سيّما السيارات المتأخّرة عن إجراء المعاينة».

ودعا سليمان المواطنين إلى «عدم الحضور باكراً إلى مراكز المعاينة أو النوم في سياراتهم ليلاً أمام هذه المراكز، والأفضل الحضور في ساعات الظهر وما بعدَه»، مطَمئناً «أنّ اجتماعاً سيُعقد هذا الأسبوع مع هيئة إدارة السير للتعاون في إيجاد حلول موَقّتة لمشكلة تهافت المواطنين».

في الختام، وبصَرفِ النظر عن حال الإرباك التي سَبَّبها القانون، يُجمع المراقبون على التزام المواطنين به، ويبدو الأمل كبيراً… فوِفقاً لإحصاءات قوى الأمن الداخلي أمس، تراجعَت نسبة قتلى حوادث السير إلى قتيل واحد، بين 22 و26 من الشهر الجاري. في حين سُجِّل سقوط 11 قتيلاً في الفترة ذاتها من العام الماضي. أما آن الأوان لنستبشرَ خيراً، ونكفَّ عن وداع خيرة الشباب؟