لا تستحق تجربة سياسية استثنائية في تاريخ لبنان الحديث، أن تصل الى زاوية مقفلة بعد أن كانت تُضمر وتظهر إمكانات فتحها طرقاً توصل الى الدولة وتنهي المزرعة.
14 آذار في بداية المطاف وخاتمته هي (أو كانت؟!) تعبير عن التقاط لحظة مؤاتية ومكثفة في التاريخ اللبناني الحديث، ووضعها في سياق طبيعي، غير قسري ولا افتعالي ولا انفعالي، على النقيض من تجربة 8 آذار التي تشبهها في الشكل التنظيمي العابر فوق الطوائف والمذاهب، لكنها تختلف عنها بكونها ائتلافاً لتلاقي مصالح آنية وانتهازية.. لا أكثر ولا أقل!
أي بمعنى أكثر فصاحة: لو قبلت مكوّنات 14 آذار بـ الدور «الخلاصي» و»الريادي» و»الإنقاذي» و»الإصلاحي» للنائب ميشال عون لكان في صفها وليس في صف منظومة «حزب الله»! ولو أمكنه من جهته، تلمس إمكانية وصوله الى ما يريده من خلال الانضواء (أو البقاء) في الصف السيادي، لما كان اكتشف فضائل «المقاومة» في تحرير لبنان! ولا ريادة السلطة الأسدية في «حماية الأقليات»! ولا استثنائية جمهورية «الولي الفقيه« واعتبارها سدرة المنتهى، أو مثالاً يحتذى بدلاً من فرنسا! أو من الولايات المتحدة! أو من ألمانيا!
14 آذار، بمعنى ما، هي التي التقطت «الحالة اللبنانية» تلقائياً. وتلقّفت نضوجها. وقدّمت برنامجاً يسرّ الخاطر بما يحمل من جموح الى رؤية دولة مكتملة المواصفات، وشرعية تامة. ومؤسسات دستورية لا يناقضها ولا يزاحمها مشروع مسلّح ذو أبعاد خارجية واضحة، وارتباطات مؤذية الى أبعد حدود الأذى!
لم تخترع 14 آذار المناخ الوطني الذي اشتغلت ونمت في فيئه وظلّه، وإنما كانت وليدته. ولم تفتعل برنامجها السيادي. ولا نفَسَها الاستقلالي. بل قولبت ما كان ناضجاً في إطار يشبه الحلم الجميل. وبدت في يومياتها وحراكها كأنها انتقام مدني حداثي بارد وأكثر جمالاً، من كل عذابات أيام الحروب وبلاياها ومشاريعها! ومن ارتكابات وجرائم الوصاية وأدواتها… وأهم، و»أخطر» ما فيها، أنها بدت في الوقت ذاته، اعتذاراً دائماً ومتبادلاً عن المشاريع الفئوية التي صنعت مرحلة الجنون الدموي بين اللبنانيين. وقدمت بعد ذلك، أول تجربة من نوعها: خرجت من ذاكرة الحرب، الى النواحي الايجابية في ذاكرة ما قبل الحرب! والتي ينسى التائهون في مراعي الفتن والانقسام، ان اصطفافاتها السياسية، كانت أيضاً عابرة للطوائف والمذاهب!
بعد «المشروع الأرثوذكسي» المفخخ أصيبت هذه الحالة بأضرار عرضية أمكن احتواؤها ومعالجتها، لكنها اليوم مع «جلسة التشريع» تبدو وكأنها أصيبت بضيم كبير وتعجيزي يضعها على حافة التشرذم الأخير والاندثار. ويحيلها على لقاء موسمي، يتفق أركانه على قضية ما ثم يختلفون في اليوم الثاني، على غيرها.
والمفارقة المؤذية، أن 14 آذار تتشبه بـ8 آذار ولكن بالمقلوب: تفتعل أزماتها وأسباب انقسامها مع أن مناخها الوطني لا يزال في مكانه و»برنامجها» السياسي العريض أكبر من الأزمات والانقسامات، إن بالنسبة الى مشروع الدولة ورفض السلاح غير الشرعي، وإن بالنسبة الى الوضع الإقليمي بكل نواحيه الجغرافية من سوريا الى اليمن! في حين ان 8 آذار، تفتعل تماسكها، مع ان مناخها مناخات متفرقة صعب جمعها تحت سماء واحدة، سوى بوضع التجارة والانتهازية المتبادلة، في موضع السياسة!