IMLebanon

قراءة نقدية: «14 آذار» من الساحات الى الصفقات

 

 

19 عاماً مرّت على ما سمّيت انتفاضة او ثورة قوى المعارضة وقتها في 14 آذار 2005، على أثر جريمة اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري، فامتلأت الساحات بحشود الاحزاب المعارضة للوجود السوري وللحكم اللبناني الذي كان قائماً تحت رعايته. وانقلب الوضع اللبناني السياسي انقلاباً خطيراً عاش لبنان وما زال تداعياته حتى الآن تبدّلات وتحالفات وانقسامات حتى بين الحلفاء أنفسهم.

في قراءةٍ نقدية للمشهد السياسي القائم منذ العام 2005 وحتى الآن، يظهر نجاح قوى 14 آذار مرحليّاً من حيث تَسلّم السلطة، وفشلها في مراحل كثيرة لاحقة في اعادة بناء السلطة وتطوير النظام السياسي، بحيث انها بعد ان تَسلّمت السلطة لم تُقدم نموذجاً سليماً لإدارة البلاد، بدليل تَنامي الفساد والهدر وغياب الرؤية الاقتصادية والمعيشية والاجتماعية، والانخراط في تحالفات مصالح. بل انها خرجت من الساحات الاعتراضية الى الصفقات السياسية لاحقاً، وكانت البداية في صفقة ما سُمّي «التحالف الرباعي» (المستقبل والحزب الاشتراكي والقوات اللبنانية وحزب الكتائب من جهة، وأمل و»حزب الله» من جهة ثانية ولم يشمل التيار الحر) في الإنتخابات النيابية ربيع العام 2005 بين قوى 14 آذار وقوى 8 آذار، «المتهمة» أصلاً باغتيال الرئيس الحريري.

 

هذا التحالف الرباعي أوصَل غالبية من فريق 14 آذار الى الحكم، وسرعان ما انقلب هذا الفريق على التحالف، وعاد الى الاتهام السياسي لسوريا مرة ولـ»حزب الله» مرات ولإيران احياناً، وانقطَع أيّ حبل للتواصل والتفاهم بين المكونين الاساسيين للمجلس النيابي، وبقي الحال هكذا طيلة فترة الشغور الرئاسي عام 2007 حتى تسلّم الرئيس ميشال سليمان رئاسة الجمهورية وتشكلت حكومة من كل الاطياف، بما يعني عودة قوى 8 و14 آذار الى الحكم «بالتراضي والتفاهم والتكافل والتضامن» برغم خلافات شكلية ومواقف استعراضية. واستمرّ تمرير الصفقات بينها في الحكومات المتعاقبة التي تمثّلت فيها هذه القوى، سواء بالتعيينات الادارية او مشاريع القوانين الحكومية والنيابية، ما عدا عدم مشاركتها في عهد الرئيس ميشال عون في حكومتي حسان دياب ونجيب ميقاتي الحالية، اللتين غابت عنهما المعارضة المسيحية الحالية، باستثناء التيار الوطني الحر.

 

ولا يستقيم ادعاء قوى 14 آذار وقتها بأنها حققت «انتصاراً كبيراً» بخروج القوات السورية من لبنان، لأنّ السلطات السورية كانت قد اتخذت قرارها قبل ذلك بمغادرة لبنان تدريجاً، وأخلَت الكثير من مواقعها ومراكزها في بيروت وجبل لبنان. وأعلن ذلك وزير الخارجية السورية الراحل وليد المعلّم في حديث الى صحيفة «السفير» في تشرين الأول او تشرين الثاني عام 2004، أنّ القوات السورية ستخرج من لبنان تدريجاً، لكن حصلت في شباط 2005 جريمة اغتيال الحريري الأمر الذي ساهَمَ في تسريع خروجها نتيجة الضغوط والقرارات الدولية التي صدرت.

حتى في ما سُمّي «ثورة 17 تشرين الاول» 2019، التي ركبت بعض قوى 14 اذار موجتها وتحوّلت من خلالها الى «منقذ للبلاد والعباد»، فشلت هذه القوى في استغلال اللحظة المؤاتية لإحداث، ولَو، نوعٍ من التغيير والاصلاح البسيط في مناحي الحياة السياسية والعامة والاقتصادية والمعيشية، ولم تقدّم ما يفيد البلاد والعباد بعد انهيار النظام المالي والمصرفي الحر وتبديد ودائع المواطنين وتهريب الاموال للخارج وإفلاس الدولة بسياسة الدعم العشوائية غير المدروسة بالشراكة مع القوى الاخرى، بل هي استَغلّتها للتصويب السياسي على عهد الرئيس عون وحلفائه، من دون ان تقدم اي حلول فعلية للأزمات التي بدأت بالتراكم حتى الوصول الى حالة الانهيار التام الآن. هذا عدا شراكتها مع الاخرين في سلسلة الرتب والرواتب عام 2017 التي دمّرت الاقتصاد والمالية العامة.

 

ولعل خروج رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي السابق وليد جنبلاط من تفاهمات 14 اذار، ثم خروج التيار الوطني الحر، كانا مؤشّرَين على انها استهلكت نفسها واستنزفت مخزونها السياسي، فذهبت باتجاه تفاهمات جديدة كـ»تفاهم معراب» الذي لم يَعش طويلاً نتيجة الخلافات على الحصص في الحكم، والتفاهم مع بعض الكتل النيابية المعارضة حالياً، وتفاهمات موضعية مؤقتة حول امور معينة مع القوى المُسمّاة الآن من «محور الممانعة». وهي أهدَت خصمها الحالي التيار الحر «هدية» تَصدّر المعارضة مجدداً.

 

هذا اختصار لمراحل سياسية طويلة، تفاهمت فيها القوى السياسية على كثير من الامور، واختلفت على امور اخرى تِبعاً لمصالح كل فئة وارتباطاتها الاقليمية والدولية، لكن في الحصيلة لم تقدّم قوى 14 آذار تجرية غنية إصلاحية حقيقية طيلة تَولّيها المسؤوليات النيابية والحكومية. وبرغم الخلاف الحاصل الآن على انتخاب رئيس الجمهورية، فإنّ جلسات المجلس النيابي التشريعية تشهد على حجم التفاهمات التي حصلت بين قوى 14 اذار وقوى «محور الممانعة» والكتل الاخرى، وخير دليل على ذلك موازنتَي 2023 و2024 اللتين صدرتا بتفاهمات كاملة من تحت الطاولة وفوقها لتمويل الدولة من جيوب المواطنين المُنهكين، عبر زيادات كارثية في الرسوم والضرائب.

 

مرّت سنة ونصف السنة على الشغور الرئاسي، وبقايا قوى 14 اذار تراكِم الفشل تلو الفشل في التوصّل الى نتيجة إيجابية لإنقاذ البلاد، بسبب حسابات خاصة أسوَة ببقية القوى السياسية، وهي بذلك لا تستطيع ادّعاء تصدّرها محاولات الانقاذ طالما انها شريكة في صناعة الازمات. وكل شعارات «السيادة والاستقلال ورفض الدويلة ضمن الدولة… وغيرها» بقيت بلا مضمون وفِعل تنفيذي حقيقي لأنّ الانقاذ لم يحصل، ولأنّ تَبادل رَمي المسؤوليات والاتهامات عن الازمات بين كل القوى السياسية لا يقدّم حلولاً بل يزيد العجز والفشل.