لم تفتني مناسبة من مناسباتها. كنت متحمساً لها لأنها شفت غليل الشعب من ظلم نظام الوصاية. فضيلتها أنها استنهضت اللبنانيين الغاضبين وجمعتهم في أكبر حشد عرفه تاريخ لبنان استنكاراً لاغتيال رفيق الحريري، ورداً على من تجمعوا في الثامن من آذار مغتبطين باغتيال رئيس حكومتهم وموجهين شكرهم إلى نظام البعث الأسدي الاستبدادي.
شاركت في جميع مناسباتها وكتبت مع كل مناسبة منها مقالة في نقد قياداتها، لأنها استمرت تعمل على نهج الوصاية. خلاصة النقد أنها كانت حركة بلا برنامج. برنامجها الوحيد إخراج الجيش السوري، بشعارين ونشيدين وحيدين «ما بدنا جيش بلبنان غير الجيش اللبناني، حرية سيادة استقلال».
توهّمت قياداتها أن خروج الجيش السوري كاف لحل أزمة لبنان. لم يتعلّموا من تجارب سبقت. لا انسحاب الجيش الإسرائيلي حل الأزمة، ولا إخراج السلاح الفلسطيني من لبنان حل الأزمة. والأدهى من ذلك أن الذين يستحضرون اليوم أمجاد تلك الحركة، وهي حركة مجيدة من غير شك، لم يتيقّنوا بعد من أن التحرير من الاحتلال ما كان ولن يكون كافياً لإخراج الوطن من محنته، وما زالوا يكرّرون المعزوفة المتعلقة بدور العوامل الخارجية التي بدأت بالكلام عن حروب الآخرين على أرضنا ولن تنتهي بالكلام عن الاحتلال الإيراني برفعه أو بالتحرر منه.
من ينكر دور العامل الخارجي جاهل، لا شك، في علم السياسة، لكن من يحصر الأزمة بعواملها الخارجية جاهل هو الآخر. السؤال المحوري والجوهري هو عن برنامج القوى الداخلية ما بعد التحرير. من لا يملك الجواب لا يستطيع أن يشكل بديلاً. اسألوا الفلسطينيين الذين ما أن تمكنوا من العودة إلى فلسطين، بصرف النظر عن ظروف العودة، حتى قسموا فلسطين المقسمة إلى رام الله وغزة، واسألوا بلدان الربيع العربي الذين لم يكونوا يشكون من أي احتلال ومع ذلك ثارت شعوبهم ضد العامل الداخلي المتمثل بأنظمة الاستبداد.
ما أن خرج الجيش السوري حتى اتفقت قيادات الجمعين الآذاريين على استكمال نهج الوصاية بالإجهاز على الدولة وتوزيعها حصصاً على زعماء الطوائف، مع المحافظة على حصة للنظام السوري بصمتهم وإذعانهم حيال تهريب المواد المدعومة بالعملة الصعبة عن طريق المعابر غير الشرعية. الاتفاق الرباعي جسد ذلك حين خطب أمين عام «حزب الله» ود القوات اللبنانية مؤكداً على أن القرى السبع جزء لا يتجزأ من الـ 10452، هذا الرقم الذي يدغدغ مشاعر القواتيين.
من يعتقد أن ثورة 17 تشرين هي من سلالة انتفاضة 14 آذار ليس واهماً فحسب بل هو مضلّلٌ، بكسر اللام وفتحها. 14 آذار انتفاضة رائعة ضد الجيش السوري لكنها انتهت بخروجه. أما 17 تشرين فهي من سلالة الربيع العربي ولن تنتهي إلا بإسقاط المنظومة، والانتخابات النيابية إحدى حلقاتها الموعودة.
الثورة ركزت على العوامل الداخلية لأنها أدركت بالحدس والحس السياسي الجماهيري السليم أن العلة في أزمة لبنان المستدامة بل وفي تكرارها هي المنظومة السياسية الحاكمة التي وظفت العوامل الخارجية ضد النظام والدولة واستبدلتهما بحكم الميليشيات.
ميليشيات لبنان تعاملت مع شعبها على طريقة النظام العربي، إذ قام كل منها بتحريض أتباعه ضد عدو خارجي والهدف واحد هو تأبيد النظام. ميليشيات مسلحة أو غير مسلحة تعمل على تكرار التجربة، ثلاثون عاماً لحسني مبارك في مصر ولبن علي في تونس، وأكثر منها للقذافي في ليبيا، والأسد إلى الأبد في سوريا. أما في لبنان فإن قوى المنظومة توهم شعبها بأنها تخوض صراعاً بين مقاومتين تستحضرهما من التاريخ، من الفينيقيين وما قبلهم وما بعدهم ومن المقاومة الحسينية للأمويين، ليبقى الاستبداد شاهداً على انهيار هذا البلد الجميل.
الانتفاضة ليست كالثورة. تلك تعبّر عن غضب وهذه تسعى للتغيير.