ربّما من المبكّر إجراء قراءة لتجربة 14 آذار، لكن قوى 14 آذار تأخرت بالتأكيد في إجراء مراجعة نقدية لمسيرتها منذ 11 عاماً وما تخلّلها من إنجازات وإخفاقات في آن. ذلك أن إطلاق العنان لانتقادات قيادات وجمهور 14 آذار لهذه التجربة من دون الوقوف على أسباب الإخفاقات على نحو موضوعي بعيداً من المزايدات السياسية، في بعض الأحيان، إنما يزيد هذا الجمهور إحباطاً ولا يحدّد مكامن الخلل الفعلية، التي ترتبط من جهة بخلفيات نص الدستور وروحه اللذين يدفعان في الاستحقاقات الكبرى الى اللجوء للتسويات، ومن جهة ثانية بالأعراف التي انبثقت من الميثاق الوطني، وثالثاً بميزان القوى القائم في البلد.
في نص الدستور: غني عن القول إن المواد الدستورية المتعلقة بالاستحقاقات الكبرى مثل انتخاب رئيس للجمهورية أو إقرار قانون جديد للانتخاب تتطلّب أكثرية الثلثين، الأمر غير المتوفّر لدى قوى 14 آذار (منذ 2005 حتى اليوم)، ما يضطرها الى البحث عن تسويات مع قوى 8 آذار من أجل الوصول الى خواتيم ممكنة، وهو ما يفسّر اضطرار الرئيس سعد الحريري الى دعم مرشّح للرئاسة في 8 آذار، وكذلك رئيس حزب «القوات اللبنانية» الدكتور سمير جعجع، لأن التمسك بمرشح من 14 آذار يبقي البلاد بلا رئيس، فيما الإقدام على ترشيح آخر من 8 آذار يمكن أن يفتح الباب ولو نسبياً نحو إتمام الاستحقاق.
في الأعراف المنبثقة عن الميثاق: لم تتمكن قوى 14 آذار من انتخاب رئيس لمجلس النواب من صفوفها (عندما كانت تملك أكثرية نيابية) بسبب امتلاك رئيس المجلس الحالي نبيه برّي أكثرية نيابية شيعية تفوق نسبتها الـ95 بالمئة.
كما لم تتمكّن من إسقاط رئيس الجمهورية السابق إميل لحود نظراً لأعراف مارونية (ميثاقية) تمنع إسقاط الرئيس ولو قبل ساعة واحدة من موعد انتهاء ولايته الدستورية، وهو ما تمسّك به البطريرك السابق مار نصرالله بطرس صفير ومعه قيادات من 14 آذار. كما تواجه اليوم معضلة بشأن رئاسة الجمهورية بين أحد مكوناتها الأساسية الذي يعتبر أن النائب ميشال عون يحظى بدعم أكثرية مسيحية تبلغ 86 بالمئة (الأمر الذي دحضته أرقام استطلاع الرأي الذي نشر في الزميلة «السفير» الأسبوع الفائت)، وبين مكوّنات أخرى أساسية أيضاً تعتبر أن ترشيح عون لا يحظى بتأييد 50 بالمئة من النواب المسيحيين في المجلس.
في ميزان القوى: إن المعضلة الأهم التي تواجهها قوى 14 آذار منذ أحد عشر عاماً حتى اليوم تكمن في تضارب ميزان القوى الدستوري من جهة والعسكري من جهة ثانية، أي المتمثّل بقوة «حزب الله» العسكرية التي تسعى الى تقويض سطوة القوى الأمنية والعسكرية الشرعية، والتي استخدمها الحزب في الداخل (7 أيار والقمصان السود..) ليغيّر موازين القوى الشرعية.
هذا المعطى وضع قوى 14 آذار أمام تحدّي قيام وصاية جديدة، داخلية هذه المرة، بعد نجاحها في إجلاء الوصاية الخارجية المتمثلة بالجيش السوري الذي كان منتشراً في لبنان. وثبت بالتجربة أن التعامل مع «الوصاية» الداخلية أكثر تعقيداً من التعامل مع «الخارجية»، بسبب تماهي «حزب الله» مع مكوّن أساسي من المكوّنات اللبنانية هو الطائفة الشيعية، التي تصنّف إحدى الطوائف الكبرى الثلاث في لبنان.
وبذلك أصبحت قوى 14 آذار أمام حالٍ من العجز في مواجهة هذا المعطى الذي لم يمثّل عبئاً على التركيبة اللبنانية وحسب، وإنما أصبح يمثّل عبئاً على المجتمعين العربي والدولي اللذين يتناوبان على فرض عقوبات ضدّه، آخرها العقوبات الخليجية والعربية والأميركية، ومع هذه الإجراءات لم يعد «حزب الله» مجرّد معضلة لبنانية وحسب، وإنما تحوّل الى معضلة عربية ودولية أيضاً بعد أن صار قوة إقليمية تتجاوز الواقع اللبناني، ما بات يمثّل تحدياً يتجاوز قدرات 14 آذار على معالجته أو مواجهته.
معنى ذلك أن حركة 14 آذار ورغم أخطائها الكثيرة التي أضعفت زخمها وأخفتت وهجها، ومن بينها «معركة الأحجام» داخل الساحة المسيحية المستمرة منذ العام 2005، تارة تحت عنوان الصراع بين الأحزاب من جهة و»المستقلين» من جهة ثانية، وطوراً تحت عنوان من هو «الأقوى» بين الأحزاب نفسها، إلا أنها في واقع الأمر، أو في الأساسيات، تواجه معادلةً هي الأصعب في تاريخ لبنان، تتمثّل بـ»وصاية» داخلية تتماهى مع مكوّن أساسي من المكونات اللبنانية، لم تقوَ دول إقليمية أو عالمية على مواجهتها، ما يعني أن المعضلة المشار إليها تحتاج الى معالجات إقليمية، من نوع انحسار التمدد الإيراني في المنطقة أي عودة إيران الى إيران.. عند ذاك يمكن الولوج الى مراجعة نقدية داخل 14 آذار بدلاً من تحميلها وزر لا تحتمله، أو جلد الذات، كما هو واقع الحال الآن.