IMLebanon

14 آذار أمام التحديات الجديدة

تأتي الذكرى العاشرة لانطلاق ثورة 14 آذار بعد تغيرات وظواهر جديدة وحروب وسقوط طغاة وصعود سلفيين ومتطرفين وإرهاب. عشر سنوات من «الزلازل» التي لم يعرفها العالم العربي منذ قرن. تبدلت فيها الأحوال التي فجّرت ثورة الأرز، والمعطيات، والظروف، داخلياً وخارجياً ودولياً. وبات الكلام الذي كان يلبي المرحلة السابقة (أيام الوصاية السورية وشقيقتها العروبية الفارسية). لم يعد ناجعاً. كما الأساليب التي استخدمت لخلع النظام السوري في لبنان. كأنما في العشر الأخيرة انقلبت الأمور رأساً على عقب، في الميادين، وفي الشعارات، وفي معالجة الأمور، وتناول القضايا والاخطار الخارجية (إيران إسرائيل أميركا سوريا)، التي هدّدت لبنان، على امتداد نصف قرن تهدد إنجازاته في ربيع الأرز، وباتت تهدد كذلك الأمة العربية كلها، من شمال إفريقيا إلى الخليج، وصولاً إلى اليمن والعراق. لم تعُد قضية لبنان، وحيدة، منفردة، أو خاصة، بل دخلت (أو أُدخلت) في معمعة الصراعات القائمة، وسقطت سياسة النأي بالنفس عن التدخل في الجنون الخارجي، وتلاشى مفعول «إعلان بعبدا»، وبات لبنان ساحة من ساحات «النزاعات» المسلحة، وبؤرة أخرى ينطلق منها المقاتلون (حزب الله) وسواهم. في خندق واحد، بات لبنان، مع الدول العربية، وصار مصيره (المهدد أصلاً من أحلام الإمبراطورية الفارسية) مرتبطاً بمجمل الوضع. وهنا بالذات، يمكن أن نتوقع (اليوم في الاحتفال بذكرى 14 آذار) خطاباً آخر متصلاً بمجريات الأمور الراهنة، ومستحدثاتها مختلفاً عما جرى تداوله في المرحلة السابقة.

خطاب جديد بعقول منقشعة، ونفوس حيّة، وإرادات مُهيّأة، ينطلق أولاً من معاناة لبنان العشرية مع إيران، وسوريا، وصولاً إلى داعش والنصرة، والإرهاب، وجنون حزب الله. ونظن أن هذا الخطاب الذي تقدمه اليوم 14 آذار، لا بد أن يخترق سياسة القبول، والتخوف، ولغة «الاعتذار»، والتمادي في تكرار الأخطاء الفادحة التي ارتكبها بعض فرقاء ثورة الأرز. فالنقد الذاتي السلبي لم يعد كافياً، (وإن ضرورياً)، بل أن يكون إعادة نظر شاملة، بالعلاقات الداخلية، ومكونات 14 آذار وأحزابها، وجمهورها، ومناطقها، وقضاياها، ومخاوفها، ونداءاتها المتواصلة بكفّ مسلسل المظالم التي يتعرضون لها، لوصمهم بالإرهاب، والسلفية، والتطرف (خصوصاً عكار، وطرابلس وبعلبك). بمعنى آخر، من الصعب التوجه إلى كل هذه الجهات، بخطاب «ثقافي» أو تنظيري، أو تجريدي، فوقي تطلقه نخبة إلى نخبة أخرى، لسبب بسيط: إن 14 آذار هي أولاً وأخيراً فعل جماهيري، شعبي، ومدني، ظاهر يُطاول مختلف الطبقات والطوائف، والشرائح والأحزاب، وهي فعل تشابك مجتمعي عمومي، خصوصاً في الميادين، أي أن 14 آذار لم تكن مجرد «لقاءات» أو تحالفات حزبية، أو طائفية، بل أكبر من ذلك بكثير! فمن الطبيعي أن تكون حركة 14 آذار بمجازاتها ومعطياتها (الشعبية) وثوابتها الوطنية وميراثها السيادي، والاستقلالي، والعروبي ونزعتها الديموقراطية، والتعددية (الأبعد من الغيتوية والكانتونية)، أكبر من أحزابها. فهي صانعة «الوجه» الجديد للعديد من الأحزاب والحركات التقليدية المنضوية فيها، ومحركة الرواكد، وسياسة القبول وسياسات الأمر الواقع، في أوصالها. إنها الشعلة التي اقتبست نارها من كل لبنان، ومن كل الناس، ومن كل همومهم، وليس فقط من مشاركة الأحزاب المهمة أصلاً، التي كان لها أن تنظم، هذه الجموع، وترسم ما يتوافق من أولويات. وعلى هذا الأساس، قد نقول أن الأولويات الأساسية ما زالت أولويات أساسية: بناء دولة القانون والعدالة والسيادة والاستقلال والحرية. هذه لا تتغير. لكن ما قد يتعدل، يتمثل بكيفية النظر إلى هذه «الثوابت» المهددة، ونوعية الطرائق التي تحدد الأُطر، والطرائق، والسُبل، للحفاظ أولاً على ما حققته 14 آذار. ونحن نعلم، إن كثيراً من إنجازاتها قد شوّه، أو استخدم لغير غاياته: فهي حررت اللبناني من الخوف، وفتحت الميادين، والمدن، بعدما حرّمتها عليه الوصايات المتعاقبة. للمرة الأولى منذ نصف قرن يتحرر الشارع اللبناني لتحتله التظاهرات السلمية والسياسية والنقابية والاحتجاجية والاحتفالية. (وهذا ما فعله الربيع العربي في تونس ومصر وسوريا وليبيا واليمن). وتحرير الشارع لممارسة الديموقراطية المباشرة، حاول بعضهم لا سيما الحزب الإمبراطوري الفارسي، باستخدامه لضرب الديموقراطية، وإعدام معانيه، ودلالاته، وقد شهدنا على ذلك أمثلة فاضحة أبرزها غزوة الحزب لبيروت والجبل في 7 أيار. حتى بات هناك شارعان: واحد ضد الحرية، وآخر من أجلها.

[ تحرير الشارع

وتحرير الشارع يعني فتحه على كل الأمكنة، على المنازل، والمدارس، والجامعات، والقضايا، والمظالم، والنقابات، والاحتجاجات، وهذا كان غائباً تماماً. وما كان من جماعات 8 آذار إلاّ أن شوّهت أوصاله، لتستخدمه في أبشع الصور. هذا المكسب الثمين من البوابات الواسعة للحقوق المدنية، والتعبيرية، والإعلامية، التي يجب عدم نسيانها، بحيث يؤدي ذلك إلى الرجوع إلى «المربعات» الأولى، وظواهر الخوف القديم، وتعليب الجماهير في أمكنتهم، وتجميدهم، بل وتحنيطهم. ونظن أن التظاهرات النقابية والاحتجاجية هي التي هيمنت على الميادين والشوارع؛ صحيح أن 14 آذار قد ساهمت إيجابياً بهذه التظاهرات، لكن جمهورها في السنوات الأخيرة كأنه وضع في الثلاجة، وتحوّلت «النضالات» إلى المنابر والصالونات ووسائل الإعلام. وهذه نقطة أساسية نتمنى أن يتطرّق إليها خطاب اليوم. فـ14 آذار ولدت في الشوارع وفي المخاطر، وفي مواجهة كل الاحتمالات، و»زجّ» جمهورها في مناطقه، وقراه، ومنازله، خسارة فادحة لعنصر أساسي من نضالاتها الديموقراطية.

[ سرّ قوتها

وإذا كانت الأحزاب والناس تداخلت، على غير تفريق وفجوات في الانطلاقات الأولى، وكان ذلك سرّ قوتها، وفاعليتها، فقد بدا أنه تَباعُد هذه القوى عن تشاركية جمهورها وتداخله، وتصدّع علاقاتها بحسب مصالح بعضها الخاصة وطموحاته المنفردة، أوقعها في نوع من اللقاءات «الفدرالية» أو «الغيتوية» أضاعت بوصلة الاستراتيجيات الأولى، لتتحول «تجمعات»، لكل منها فصولها، وتكتيكاتها، وتوجهاتها. وهذا ما أثر سلباً على تفاعل الجمهور ودوره. كأنما عادت الأمور إلى نقاطها «التقسيمية» لتحل محل التعددية المعهودة كما رأينا في بدايات ثورة الأرز. كأن كل حزب أو حركة «فتح« 14 آذار لذاته، لتصبح هذه الحركة مجرد تحالفات موسمية أو انتخابية.

[ مجلس وطني

وهنا بالذات أهمية انشاء مجلس وطني مركزي يضم مكونات 14 آذار الحزبية والنقابية والسياسية والنيابية والوزارية. ونظن ان توقيت انشاء هذه الوحدة لا يمكن ان يتمّ بفاعلية عملية (لا نظرية) إلاّ اذا انعكست على تعددية الجمهور المرتبط بها والمستقل، لكي لا يكون المجلس مؤسسة فوقية مفصولة عن جمهورها او بيروقراطية شبيهة بالمجالس الرسمية والهيئات التقليدية. ونظن أن توقيت المجلس يصادف (بالضرورة) مشروع انشاء جبهة عربية سياسية وعسكرية وأمنية، في وجه المخاطر الامبراطورية لإيران، وللظواهر الارهابية كداعش، والحوثيين والحرس الثوري وانصار الله وأحزاب الله والمؤامرات التي تنزع إلى فرض إيران كموقع «عربي«، تاريخي، ضروري (كما فرضت أميركا واسرائيل الوصاية السورية على لبنان خدمة للاحتلال الصهيوني في الجولان وضربة للقضية الفلسطينية). عندنا مجلس وطني توحيدي حر ودول الاعتدال العربي نحو تنسيق توحيدي. ونظن ان الاتجاه التوحيدي هو السبيل الوحيد لمواجهة ما يتهدد الأمة العربية والاسلام المعتدل.

لكن اذا عدنا إلى مشروع «المجلس الوطني» لقوى 14 آذار نجده الوسيلة الوحيدة لمقاومة المطامع الامبراطورية والمحافظة على كل قيم الجمهورية والدولة والحدود والكيان والديموقراطية. وها هي ايران بلسان أحد جهابذتها تعلن قيام «الامبراطورية الايرانية» وعاصمتها بغداد (المدينة التي هزمت الخميني نفسه في الحرب التي تسببت بين العراق وايران) لتنتقم من الاسلام نفسه (باسم الثأر القديم) ومن العروبة باسم الثأر الفارسي المتجدد. هذا المجلس الوطني نتمنى الا يكون صورة سلبية، للانفصالات التحتية أو لتمايزاتها أو يكون تجمعاً «كانتونياً» عددياً لهذه القوى وعندها يتحول مجرد اطار أو هيكل مليء بالكلام… وفارغ من الفاعلية.

[ مجلس جمهوري

ونظن ان المهم ألا يكون هذا المجلس بديلاً من الحضور الجماهيري. فهو أولاً وأخيراً مجلس «جمهوري» (اي جماهيري) يواجه الاستراتيجيات الامبراطورية «المستعادة» بالعنف والقوة! ونحن في زمن هذه الامبراطوريات من روسيا بوتين الحالم بقيصرية جديدة، او بأردوغان الحالم بالخلافة العثمانية، او حتى الكيان الصهيوني الحالم بإسرائيل الكبرى، وملوك اليهود القدامى وهذه الظواهر «المرضية» الماضوية موجهة أولاً وأخيراً ضد الجمهوريات والممالك والامارات العربية المستقلة والدستورية والقانونية. فمن زمن الجمهوريات ورؤسائها ضد زمن الامبراطوريات وقياصرتها ونيرونها ومرشديها وخلفائها. فزمن التوحيد «الامبراطوري» القسري هو زمن اعدام الهويات الخاصة المتعددة، والنزعات القومية والوطنية والاستقلالية والسيادية: انه بكل بساطة زمن الامبراطوريات الاستعمارية المتعددة. وها هي ايران وتركيا وروسيا وداعش، تعيش كلها في هذا الزمن الاستعماري الجديد.

[ الأخطار

بمعنى آخر على 14 آذار، ومن خلال استحداثها مجلسها الوطني وتكاوينه، وتنظيمه ومهامه ان تقدر الأخطار التي تواجهه في الوطن خصوصاً، ليس من الباب الافتراضي او «التنبؤي» بل من استقراء الوقائع التي تتراكم على كل شيء في العالم العربي، وعندنا، وتوحي بقوة ان ما تفعله القوى الظلامية، وفُقهاء «العتمة» والدم، في عدد من البلدان العربية ضمن طموحات او «مطامع» او «استراتيجيات» لا يمكن إلا ان يكون بلدنا من ضمنها. وعلى هذا الاساس نتمنى ان يكون خطاب 14 آذار اليوم حاملاً معه وسائل الدفاع والوقاية والحذر والاستعداد لكل الاحتمالات. ولا بد هنا، من التكهن (أو اكثر من الافتراض) من أن اعلان ايران «انتصاراتها» (سواء وقتية أو مؤجلة، يعني أنها تريد «ثمناً» لها ومكافأة واستمراراً لخطها في لبنان وكما في كل «زعم» لحزب الله في نصر (خصوصاً بعد انسحاب اسرائيل من الجنوب والبقاع) وبعد انتصاره المزعوم في حرب تموز (وهو «انتصار« مليء بالموت والخسائر والجنوح) كان يطالب بـ «ثمن»: خوض «مغامرات»، اذلال للبنان وللدولة وللجيش وتعميق كانتوناته وتوسعه في خضم دور المجلس النيابي والحكومة ورئاسة الجمهورية. وهنا نتساءل هل تشك 14 آذار لحظة واحدة بأن حزب الله هو جزء من الحلم الامبراطوري الايراني وتحديداً في لبنان. وهذا يعني، انه يُخطّط له للاستيلاء على السلطة كلها، والرئاسة كلها والمؤسسات كلها، لتغيير النظام والكيان، لكي يتسنى ان يعلن بعض قادة ايران في لبنان ولاية فارسية، عندها «مرشدها» وحرسها الثوري وسراياها. هذا ما يمكن «توقعه»؟ نعم! فهل يُضمّن خطاب 14 آذار اليوم مثل هذه «المخاوف» والتقديرات والاستفرادات والاستتباعات وهنا بالذات يمكن تمييز طبيعة الصراع الراهن (والمقبل) القائم بين العقل الجمهوري لثورة الأرز والعقل الامبراطوري لحزب ولاية الفقيه. والسؤال: اذا كان الحزب المذكور يؤسس منذ عدة سنوات لمثل هذا الصراع فكيف تؤسس 14 آذار؟ أي كيف تلجأ إلى وسائل جديدة (لا نعرف ما هي حتى الآن) لحماية «الجمهورية» (وقيمها التنويرية والديموقراطية والقانونية) من الاخطار الامبراطورية الداهمة. يرى البعض ان هذا التساؤل «أكبر» مما يجري اليوم عندنا وحولنا، والبعض يرى انه «اصغر» مما يجري. لكنه، سواء كانت التخوفات (وهي أكثر من تخوفات) صحيحة، او غير صحيحة، فذلك لن يلغيها. نعم! وهنا نعود ايضاً إلى مشاعر اللبنانيين، ومعايناتهم وأحداسهم وهي لا تخلو من هذه المخاوف، فكيف نتعامل بعيداً عن الخطابات المطمئنة المُريحة بطريقة تتحول فيها «المخاوف» إلى فعل مقاومة، منظمة سلمية شعبية، تكون سداً في وجه الطوفان الوبائي لحزب سليماني. هنا بالذات، قد نرى أو لا نرى خلف سطور «المجلس الوطني» الجديد وخطاب 14 آذار اليوم، ما يمكن استشفافه (لا إضماره وطمسه ودفن الرؤوس في الرمال)، فهذا الخطاب موجه أولاً وأخيراً إلى الجمهور العريض، المتعدد الذي هو صنع مع دم الرئيس الشهيد رفيق الحريري وشهداء 14 آذار، هذه الثورة التي اعتبرها مرحلة اساسية من نضاله لاستئصال كل وصاية خارجية على لبنان وكل استئثار بالسلطة وكل سلاح ميليشيوي متبق. وبالمناسبة: لا يظن كثير من جمهور 14 آذار ان تمسك حزب الله بهذه الترسانة الحربية الضخمة انما هو لمحاربة اسرائيل. فنحن (كما يقول كثيرون) نعيش ما بعد مرحلة محاربة اسرائيل (تماماً كحال النظام السوري بعد اتفاق 1974 مع العدو) الى مرحلة الهيمنة على الدولة اللبنانية بالقوة وهم يعدون العدة لذلك، في خلفياتهم وامامياتهم وضمائرهم وتصريحاتهم وعدتهم الاساسية هي سلاحهم. فهل تكون هذه «المسألة» في صلب خطاب اليوم؟ وهل يمكن مجابهة كل الأخطار الإيرانية والارهاب والداعشية بأن يكون المجلس الوطني «تجمع طوائف أو احزاب» يتحول بعدها إلى مجرد لقاءات مناسبية أو سواها أم انه سيضع من التصورات ما يجعل الجموع كلها، (وهي عابرة للطوائف لا الأحزاب) في استنفار استعداداً لإسقاط مشاريع ايران في لبنان. انه صراع شرس بين «العقل الجمهوري، المدني، الديموقراطي، والعقل الامبراطوري الفاشي، سواء تمثل بالملالي أو بداعش او سواها!

فلنعلن اليوم ان هذا الصراع ليس سهلاً وليصرخ جميع المجتمعين: نعم! ليس سهلاً، ولكنه ممكن. وليتذكروا كيف اخترعوا معجزة ثورة الأرز… ليستمدوا املاً في اختراع ثورة الانتصار على كل وصاية أو مشروع احتلال… أو امبراطورية شمولية توتاليتارية! هذا هو الرهان الأساسي!

فهل تكون؟