IMLebanon

14 آذار» أمام خياريَن

السبب الرئيس وراء زوال الأحزاب والحركات على مرّ التاريخ يتمثل في عدم قدرتها على التأقلم مع الوقائع الجديدة التي تفرضها تحدّيات كلّ مرحلة، فضلاً عن عدمِ ابتكارِها الأدوار التي تُبقيها على قيد الحياة.

استمرار ١٤ آذار شرط إعادة استنهاض نفسها التطوّر سنّة الحياة، وكلّ شخص أو فريق يرفض مواكبته، ويصرّ على التمسك بسلم أولوياته من دون إدخال أيّ تعديل عليها انسجاماً مع اللحظة السياسية سيتحول عاجلاً أم آجلاً إلى جثة سياسية، لأنّ الناس الذين جسد تطلعاتهم في حقبة معينة سيبتعدون عنه في حال لم يأخذ في الاعتبار هواجسهم ومتطلباتهم.

ولا أحدَ يتكلم هنا عن تغييرٍ جذري، بل مجرد إدخال العنوان أو العناوين التي فرضت نفسها نتيجة عوامل عدة، وفي طليعة هذه العوامل تجميد ١٤ آذار المواجهة السيادية، وإهمالها المواجهة الإصلاحية.

وبمعزلٍ عن الأسباب والاعتبارات التي أدت إلى التجميد والإهمال، غير أنّ الأساس والجوهر هو أنه لم يعد بإمكان الحركة الاستقلالية مواصلة نضالها وكأنّ شيئاً لم يحصل في البلد، ولكنّ الأهم لم يعد باستطاعتها تجميد نضالها، بل يفترض أن تواصله ولو تحت أيّ عنوان.

فالرأي العام أو جزءٌ منه أقله فرض أجندة جديدة، وتجاهلها هو تجاهل لمصالح الناس واهتماماتهم، فضلاً عن انه نجح في اقتطاع مساحة من المتابعة اليومية لحراكه ونشاطه ومواقفه، وبالتالي إشاحة النظر عن ما يجرى لا يعني أنّه ليس قائماً ومستمراً.

ويجب الإقرار أنّ الأكثر تضرراً في ١٤ آذار هي المساحة المدنية التي انتقل جزءٌ واسع منها إلى الساح، فيما الأقل تضرراً هي الأحزاب، ولذلك أيّ مبادرة تقوم بها المساحة المدنية على شكلِ وثيقة وإحياءً للحظة ١٤ آذار ٢٠٠٥ ومن خلال الوجوه ذاتها ستشكل أكبر مساهمة في تعزيز الحراك القائم في الشارع.

ففي ١٤ آذار اليوم هناك فقط أحزاب، بعدما تلقى المجتمع المدني صفعة قوية، ولكنّ هذا المجتمع كان لفترة قصيرة مضت يشكل القيمة المضافة لكلّ مكوّنات ١٤ آذار، وهذه المكوّنات مدعوّة اليوم إلى إعادة تزخيم وضعها مجتمعة بغية استعادة الرأي العام ثقته بها.

فيمكن الكلام بسهولة اليوم عن «القوات» و»الكتائب» و»المستقبل» وغيرهم، ولكن يصعب الكلام عن ١٤ آذار، والوقت على عكس ما يعتقد البعض لا يعمل لمصلحة ١٤، لأنّ ما حصل في الشارع قدم صورة جديدة وأعطى انطباعاً أنّ الصورة القديمة انتهت، وبالتالي عدم المبادرة يساهم في ترسيخ هذه الصورة.

وما ينطبق على ١٤ آذار ينسحب على ٨ آذار، مع فارق أنّ الأخيرة مكوَّنة فقط من أحزاب، إنما الموجة اليوم في البلد هي ضدّ الفريقين معاً، ولكن ١٤ آذار لديها ما تخسره وهو الرأي العام، فيما ٨ آذار لا رأي عام لديها، بل بدأت تعمل على تكوينه من خلال الحراك المستجدّ في الشارع.

فإذا كان هناك مصلحة في استمرار ١٤ آذار وتعويمها مجدداً، يعني أنّ على هذا الفريق أن يعود إلى قواعده ويعقد في أقرب فرصة مؤتمراً على شاكلة مؤتمرات بريستول، إنما ليس لإصدار وثيقة كلاسيكية تذكر بالثوابت والمبادئ الأساسية، لأنّ ما ينتظره الناس أبعد ما يكون عن هذه الأدبيات حصراً، بل يجب أن يخرج بمجموعات توصيات عملية أهمها ثلاثة:

أولاً، إعلان المواجهة الوطنية تحت عنوان «الانتخابات الرئاسية الآن»، ووضع خريطة طريق عملية لتحقيق هذا الهدف، بدءاً من استخدام الشارع وصولاً إلى القنوات الديبلوماسية.

ثانياً، إدخال البعد المطلبي في صميم برنامجها السياسي ورفعه إلى مرتبة الأولوية، فتتحوّل مكافحة الفساد إلى أولوية، وإصلاح المؤسسات إلى أولوية…

ثالثاً، الإطلالة بوجوه جديدة من رحم ثورة ١٤ آذار.

فالثغرة الأساسية لدى ١٤ آذار لا تكمن فقط بالمساكنة مع سلاح «حزب الله»، بل بالتبريد السياسي الذي تنتهجه على كلّ المستويات، فإذا كانت ظروف المرحلة تستدعي عدم جعل السلاح أولوية على مستوى المواجهة الوطنية، إلّا أنّ هذا لا يعني الاستقالة من أيّ مواجهة أخرى.

فالأساس هو المواجهة بمعزل عن العنوان. وبمعنى آخر القاعدة هي المواجهة، فيما العنوان تفرضه طبيعة كلّ مرحلة. ومن هنا المواجهة مع السلاح اليوم تضرب العنوان الرئاسي الذي يجب أن يتقدّم على كلّ مواجهة أخرى.

ولكن بمعزل عن كلّ ذلك، لم يعد بإمكان ١٤ آذار أن تستمرّ من دون إدخال تعديلاتٍ جذرية على وضعيتها وتركيبتها، وإذا كان هناك مصلحة لدى كلّ مكوّنات الحركة الاستقلالية لنفض الغبار عنها نتيجة تراكم السنوات والأحداث، فيجب الإقدام على ذلك سريعاً وإلّا ستتحول ١٤ آذار إلى مادة للتشريح التاريخي، بدلاً من أن تبقى في صلب صناعة مستقبل البلد.

وعليه، فإنّ 14 آذار أمام خيارين: خيار استنهاض نفسها لاستعادة فعاليتها الوطنية، أو الاستمرار في وضعية الموت السريري بانتظار اللحظة التي تطوي هذه الصفحة السياسية.