حفلة الجنون انطلقت بقوة، ولا يتوقع لها التوقف قريباً. والنتيجة بحدها الادنى، ستكون اكبر من مأساة مرفأ بيروت. المجانين المتفلتون من عقالهم، يجدون من يحضنهم في لبنان والخارج. وثمة مَن يسوّق لهم بين الناس الذين ينتشر فيهم وباء الجنون ايضاً. لم يكن زياد الرحباني مخطئاً عندما قال إن المشكلة في الناس أيضاً لا في الزعماء حصراً. العالم من الخارج، لا يجد الى الآن ما يزعجه من هذا السيرك، وسينتظر وقتاً قبل أن يعرض عضلاته، وقبل أن ينال نصيبه من الجنون اللبناني، ثم يهرب تاركاً خلفه كل انواع الضحايا.
الخلافات في تشخيص المشكلة او تقدير الموقف او اتخاذ وجهة، هي خلافات منطقية في بلد مثل لبنان. وهي تزداد بسبب غياب المرجعية الجامعة التي يعرفها بقية العالم على شكل دولة. ليس في لبنان مؤسسة (بما فيها الجيش) تحظى بثقة الجميع. ليس في لبنان شيء يقبل به الناس جميعاً في لحظة واحدة، سوى الطقس، ربما. وما عداه، ليس هناك من توافق على شيء. لا الاديان ولا الطوائف ولا المذاهب، ولا الاحزاب ولا التيارات الفكرية، ولا الاندية والجمعيات والمرجعيات، ولا المؤسسات والوزارات والادارات، ولا المراجع الدينية او العلمية او الطبية او حتى احوال السير، لا شيء على الاطلاق. والمشكلة الاكبر أن الفروقات الضيقة (فعلياً) بين الناس، تتحول الى مسافات ومساحات كبيرة، بسبب النزعة الانعزالية التي صارت مرضاً مشتركاً عند كل الشعوب اللبنانية العظيمة. حالة الصفاء الطائفي تكرست كثيراً في سنوات السلم الاهلي الكاذب بين عامي 1992 و2005. وهي تعززت اكثر بين عامين 2008 و2015، وربما نشهد آخر فصولها الآن، في ضوء الدعوات المرحب بها الى الكونفدرالية والفدرالية والتقسيم وغيرها من الافكار الشيطانية، والتي ينسى بعض اللبنانيين أنها جُرّبت، ودُفعت لاجلها الاثمان الكبيرة من الدماء والثروات. ومع ذلك، يريد بعض الزعماء تكرار اللعبة. والاخطر، أنه لا يزال بين الناس من يأمل ان تنجح المحاولة الجديدة.
ولأن قاعدة «كلن يعني كلن» ليست صحيحة، ولا يمكن ان تكون حقيقة قائمة، فإن المسؤولين عن موجة الجنون الحالية، هم حصراً أولئك الذين تولوا ادارة الدولة برعاية الخارج منذ أربعة عقود، وبعضهم منذ خمسة عقود. هم النادي الذي قاد الناس الى حتفهم اكثر من مرة، ولم يجد من يحاسبه. هم الذين أعجبتهم فكرة الزعامات الطائفية الضيقة فقرروا إنفاق ما يملكون وما اضافوه إلى ثرواتهم من المال العام أو من عطايا الخارج، ويريدون اظهار قوتهم من خلال عصبيات لا تنتج سوى القهر والدمار والدماء، ومعهم ايضاً من اعتقد ان القبلية الطائفية او المذهبية هي الحصن الحقيقي له ولشعاراته ولمواقفه ولتطلعاته، وبالتالي هي التي تؤمّن له استقرار زعامته على ناسه.
اليوم، يحتل المقاعد الاولى في صفوف المجانين كل قادة 14 آذار، من دون أي استثناء. للأمانة، ربما يحاول سعد الحريري النأي بنفسه، لكن الثعالب ترقص من حوله رافعة الصوت ورايات الحرب. اما البقية فهم اصل المدرسة وأفرعها وأدواتها، والناس الذين يلحقون بهم، هم الوقود الدائم جيلاً بعد جيل. لكن الجنون لا يكتمل الا بفشل الدولة، وفشل الدولة مسؤولية يتحملها أيضاً اركان 8 آذار، الذين تصرفوا على اساس ان الدولة اقطاعية طائفية ومذهبية. منهم من اقتحم الدولة بحجة انتزاع حقوق مهدورة منذ قيام الكيان، ومنهم من مارس السطو على الدولة بحجة انه الاقدر على إدارتها، ومنهم من جاء أخيراً، راكباً على حصان يثير الغبار في كل ناحية باسم استعادة الحقوق المهدورة. والى جانب هؤلاء، يسيطر غربان المال واللصوصية على سماء البلاد وارضها ومياهها لأجل الاستيلاء على كل شيء بحجة الاقتصاد الحر.
لا حاجة إلى السؤال عن مصالح اميركا وفرنسا وبريطانيا والسعودية في لبنان. وهي قطعاً ليست متطابقة مع مصالح ايران، حتى ولو كانت الاخيرة تستهدف بناء جبهة متكاملة لا يحتل لبنان سوى رقعة صغيرة من لوحتها. لكن الآخرين لا يهتمون ولم يحصل ان اهتموا يوماً بمصير اللبنانيين. هكذا تصرفوا منذ بدء الاستعمار، الى مرحلة الغزوات الكاملة الى ايام الضغط الاقتصادي والامساك بلقمة اللبنانيين. وحظ هؤلاء في أنّ بيننا حشداً من المجانين، يراهنون اليوم على احتلال مقاعد الحكم في البلاد. اما من يضيع بين الأرجل، فهو حشد كان يمكن ان يكون كبيراً وقوياً، عنوانه الشباب المحتج على كل النهب والقهر. هذا الشباب الذي لا يزال يرفض مراجعة بسيطة لتجربة الاشهر العشرة من الانتفاض في الشارع. لكنّ قسماً من هؤلاء جرى تطويعه في ماكينات اللعبة الاكبر. وهؤلاء، صاروا ايضاً يتوهمون ان الزمن لهم، ولديهم خطاباً يذكّر بخطاب اليسار المهزوم عند انتهاء الحرب الاهلية، يوم «ركب رأسه» ان السلم سيظهره حاجة للناس. وهؤلاء الشباب، بكل جمعياتهم وأنديتهم ومنظماتهم، يتصرفون وفق قاعدة ان السلطة متاحة لهم فقط. وهم يعتقدون ان الناس تعبوا من السياسيين وانهم يريدون هذا التيار المدني ليحكمهم. المشكلة في هؤلاء الشباب انهم الأكثر غباءً بين اللاعبين المحليين. انهم الاكثر جهلاً بحقائق البلاد اليوم. ومشكلتهم الاكبر بدأت يوم رفعوا او قبلوا بشعار «كلّن يعني كلّن».
كل جندي أو أمني أو مستشار يدخل خلسة لأجل البقاء سيكون ممثلاً لقوة احتلال تنتظرها المقاومة المناسبة
للعلم والخبر، فإن الذين يقودون التعبئة المذهبية والعنصرية والسياسية والاعلامية ضد حزب الله والمقاومة، او ضد العماد ميشال عون، ومحاولة تحميلهما مسؤولية الخراب الكبير، هم يتوهمون ان لبنان سيكون قريباً جداً تحت وصاية دولية أو إقليمية، وان مفاوضات جارية من هنا وهناك من اجل نقل السلطة. ولأنهم يتوهمون، فإن صدمتهم وإحباطهم واكتئابهم ستكون على شكل أهوال كبيرة. وهذا حاصل حالياً، وليس آتياً بعد وقت طويل.
وللعلم والخبر أيضاً، فمن المفيد إخبار من يراهن على جيوش العالم، ان كل الدول والجماعات الاقليمية التي يراهن مجانين لبنان على دورها المباشر في عملية الاستيلاء على البلاد، تلقّت الرسالة التي توضح بأن أي جندي أو أمني أو مستشار يدخل لبنان من دون قرار رسمي واضح يصدر عن مجلس الوزراء مجتمعاً، سيكون ممثلاً لقوة احتلال، وسيكون مصيره الموت قتلاً لا اكثر ولا أقل…
أما من يفترض ان بمقدوره إعادة شن حروب الزواريب والمناطق وبناء خطوط التماس، فما عليه الا تشغيل خياله بطريقة افضل، وان يضع جانباً كل الافلام التي يشاهدها عن الحروب الاهلية، ولا سيما اللبنانية منها، وأن يفكر، في أن الحرب الاهلية في لبنان ممنوعة بقدرة قادر لا بقدر قادر!