لقدر خفي، سقط حاجز الخوف اللبناني في 14 آذار 2005، ولقدر أخفى كان 15 آذار 2011 تاريخ سقوط حاجز الخوف السوري. هل يمكن تخيل كيف كان ليكتب التاريخ لو توقف الزمن بين القدرين ستة أعوام ويوماً؟ كيف حدث أن تأخر «الربيع السوري« 6 أعوام ويوما، وهو ما كان تنبأ به الشهيد سمير قصير بأن يعلن أوان ورده حين يزهر الربيع في بيروت؟ هل لأن «ربيع بيروت« تأخر أو تعثر؟ أم أن «ربيع بيروت« تعثّر ن أوان الورد لم يكن قد حان في دمشق بعد؟
واجه اللبنانيون والسوريون قدرهما «الموحد«، على الرغم من الاختلاف في التوقيت والظروف والأساليب. واجه الشعبان نظام القمع والمعتقلات و«الدولاب«. في لبنان رستم غزالي وجامع جامع وغيرهما كثر، وفي سوريا الآلاف من هؤلاء على مساحة «الوطن«. في «لحظة« 14 آذار 2005، كان المزاج السوري في مكان آخر، عابرا للطوائف وأسير العصبية الوطنية. عملت على ذلك ماكينة إعلامية وسياسية قديرة، وربما ساعدت في ذلك بعض مظاهر العصبية اللبنانية. توحدت الضحية السورية خلف جلادها، ونسي رجل الشارع في دمشق لوهلة أنه يعيش في ظل ديكتاتور، ولم يعد يرى سوى الهتافات التي استفزت «سوريته«.
يومها، استثمر نصرالله هذه العصبية، وأبدى «شديد الأسى لضرب عامل سوري في الطريق الجديدة«. نعم، هو نفسه السيد الذي أخرج لاحقا أهل «القصير« من قراهم ومحا بالقصف معالم حمص واستجلب الجهاديين من «رجال الله« اللبنانيين والباكستانيين والافغانيين والعراقيين واليمنيين، لقتل الشعب السوري، حينما تشققت براعم ربيع العرب في دمشق.
باحثون سياسيون يتحدّثون إلى «المستقبل« عن «انتفاضة الاستقلال« اللبنانية عام 2005 والثورة السورية عام 2011 وأوجه الشبه والفوارق بين الثورتين والنظامين والدولتين والشعبين. يعود الباحثون الى الظروف التي سبقت انتفاضة الاستقلال في 14 آذار 2005، انطلاقاً من بيان المطارنة الموارنة في ايلول من العام 2000، الذي طالب بإعادة انتشار القوات السورية عقب انسحاب اسرائيل من لبنان، الأمر الذي أيّده النائب وليد جنبلاط . وعلى الرغم من تأجيل النظر في الملف اللبناني آنذاك بسبب الانتفاضة الفلسطينية عام 2000 ومن ثم اعتداءات 11 أيلول 2001 وتداعيات ذلك، الا أنه كان من الواضح يومها أن الأمور في لبنان لن تسير وفقاً للنظرة السورية القديمة، وبخاصة أن التوازنات الداخلية لم تكن لتسمح بالسير فيها، والرئيس رفيق الحريري لم يعد في وارد مواصلة مشروعه في ظل ذلك العبء الاقتصادي والسياسي والاجتماعي. جاءت محاولة اغتيال النائب مروان حمادة لتنبّه الى بدء مرحلة جديدة، وجاء اغتيال الرئيس رفيق الحريري ليؤكد أن هناك مَن يريد إنهاء المرحلة السابقة بالقوة (صيغة السلم الاهلي ما بين الـ1990 والـ 2005) ونسف كل التوازنات الداخلية. انطلقت الاحتجاجات الفعلية في جنازة الرئيس الحريري ووصلت الى ذروتها في 14 آذار، حيث أظهر اللبنانيون نيتهم في ضرب النظام الامني اللبناني-السوري المسيطر آنذاك.
مشكلات قوى الرابع عشر من آذار بدأت بالظهور بعد ظهر يوم 14 آذار، أي بعد المهرجان المليوني، اذ كان السؤال في تلك اللحظة: «هلق شو؟!«، ظهرت مشكلات عديدة في 14 آذار، التي لم يكن لديها مشروع سياسي واقتصادي واجتماعي واضح، بالاضافة الى تغييب المكوّنين الشيعي واليساري.
على صعيد الثورة السورية، فإن الحراك جاء نتيجة لتراكمات اقتصادية واجتماعية وسياسية، وبخاصة مع اطلاق اصلاحات بشار الاسد في بداية العقد الماضي، والتي قامت على مركزة رأس المال في يد قلة من المستفيدين السوريين، حيث تراجعت التقديمات وانهارت الزراعة وزادت موجات النزوح باتجاه احزمة البؤس حول دمشق وحلب. هذا فضلا عن قمع الحريات والاستبداد بالسلطة. واستمر الاحتقان بالتصاعد، الى أن جاءت «انتفاضة« الاستقلال في لبنان، عندما صُدِمَ السوريون من الطريقة المذلة والمهينة لخروج الجيش السوري من لبنان، ولعب النظام على قضية الاعتداءات التي طالت العمال السوريين (بمعزل عن حقيقتها وحجمها)، ونجح في تجييش السوريين حوله، حيث استعيدت يومها الشوفينية السورية بمواجهة الشوفينية اللبنانية. واستمر هذا النجاح الى ان تفاقمت المشكلات الاجتماعية، وبخاصة بعد استبعاد السكان عن وسط حمص وحلب لإنشاء المولات، واستمرار الهجرة من مناطق الجزيرة باتجاه الداخل بفعل الجفاف، وتفكيك مؤسسات الدولة لصالح القطاع الخاص المحصور بـ«جماعة النظام«. كل هذه العوامل ساهمت في تصعيد التوتر الاجتماعي في سوريا الى ان جاءت الثورة.
ويرى الباحثون ان أحد الاختلافات الجوهرية بين الثورتين هو في دور القيادات. فحكم البعث في سوريا، عمل على مدى 50 عاما (منذ انقلاب 1963) على تدمير المجتمع المدني والسياسي بطريقة ممنهجة. ومع انطلاق الثورة، تجلى انعكاس ذلك في غياب القيادات، وساد المنطق الطائفي الذي فرضه الاسد بالاستناد الى قاعدته الاجتماعية الطائفية والتحالف مع الاقليات الاخرى، الامر الذي ادى الى فرض المنطق الطائفي على مسار الثورة.
في المقابل، قادت شخصيات 14 آذارية الحراك في لبنان وشكلت بديلا سريعا بوجود النائب جنبلاط ، ومن ثم الرئيس سعد الحريري في مرحلة لاحقة، وسمير جعجع بعد اطلاق سراحه.
وأحد أوجه الشبه الجوهرية بين انتفاضة الاستقلال في لبنان عام 2005 والثورة السورية عام 2011، بحسب مطلعين، هو في سوء تقدير المنتفضين للموقف الدولي.
يجوز لأهل 14 آذار أن يسترجعوا شريط الزمن الجميل. يومها انهارت الجدران بين شطري العاصمة والوطن، وغدت ساحة الحرية ساحة للوطن. وأدت العصبية اللبنانية التي ظهرت من خلال الشعارات والهتافات الى تواري جروح الطوائف، فكان التعبير الرمزي «الجامع« عن جرح الطائفة عند أهل السنة، ورغبة الانتقام عند المسيحيين.
الإخفاق الذي تعرض له «ربيع لبنان«، لم يكن بفعل ما خطط له «حزب الله» والنظام السوري وحسب. كان ينبغي على الثورة أن تكون صارمة في تحديد وجهة المعركة: هي ليست معركة أهل السنة لاستعادة كرامتهم، ولا انتقاما مسيحيا بعد سنوات الاحباط، ولا نزاعا اهليا بين السنة والشيعة. هي غصن الزيتون الأخضر في وجه الميليشيوية، وقوة الشاب الذي يحمل حقيبته على ظهره ويدخل الى قاعة المحاضرات في وجه المخبر الذي يقضي نهاره في «الكافيتيريا« ليكتب تقريره الى قائد ميليشيا. هي برعم الربيع الاول للناس في وجه دولة المخابرات والاغتيالات، قبل أن تتفتح زهرة البوعزيزي في تونس. لو حافظت قوى «14 آذار« على مشهد «اللحظة الاولى« العابر للطوائف، لربما كان في العالم نموذج للثورات يغبطه الآخرون، اسمه لبنان.
دفع الشهيد سمير قصير حياته ثمنا لمقولته الشهيرة، «إن ربيع العرب، حينما يزهر في بيروت، انما يعلن اوان الورد في دمشق«. ربما يراقب سمير قصير من عليائه تغير المشهد، «إن ربيع العرب اليوم، حينما يزهر في دمشق، انما يعلن اوان الورد في بيروت والمنطقة«. لم يكتب التاريخ أن يسير السوريون واللبنانيون في ثورة واحدة، ومصير ثورتهما لم يكن واحدا. فالثورة السورية تعرضت لانتكاسة عندما نجح النظام بتطييفها وعسكرتها وبالاطاحة بشعار «الشعب السوري الواحد« وشعار «سلمية سلمية«. ولكن على الرغم مما اصاب هذه الثورة اليتيمة من انتكاسات، الا أن التضحيات الجسام التي قدمتها، فرضت استمراريتها لتحقيق اهدافها، وبخاصة أنه لم يعد هناك ما يأسف عليه السوريون. اما 14 آذار، فإن انتكاساتها تتجلى في فقدان تواصلها مع مكونها المليوني «الجامع« والعابر للطوائف والمذاهب، لعدم قدرتها على بلورة مشروع سياسي- اقتصادي- اجتماعي- تربوي- ثقافي. إن تقديم هكذا مشروع مع آليات عمل واضحة، ومهام نضالية يومية، هو الوحيد الكفيل بإعادتها الى خارطة «ربيع العرب».