IMLebanon

كواليس 14 آذارية باريسية

«الجمهورية» تنقل أبرز انطباعات شخصية قيادية في قوى 14 آذار زارت العاصمة الفرنسية أخيراً، والتقت مسؤولين فرنسيين وقيادات لبنانية، وتناول الحديث معها كلّ شؤون الساعة في لبنان والمنطقة.

الانطباع الأوّلي للشخصية الآذارية أنّ باريس ستنجح بتسريع الحلول في المنطقة ولبنان. وأمّا الأسباب التي دفعتها للخروج بهذا الانطباع، فهي الآتية:

أوّلاً، اهتمام الإدارة الفرنسية في هذه الأيام يتركّز حول كيفية تحقيق إنجازات في كل المجالات الداخلية والخارجية من أجل قطعِ الطريق على اليمين المتطرّف الذي يستغلّ جملةً من الأحداث والتطورات لتوسيع قاعدته الشعبية، وقد جاءت أزمة النازحين لتعزّز رصيده، كونه يتعاطى معها بخلفية سياسية لا إنسانية.

وهذا لا يعني أنّ الاهتمام الفرنسي بالقضايا الخارجية جاء نتيجة التطورات الداخلية لديها، فهي أساساً معنية بكلّ الملفات الدولية، ولكنّ المقصود أنّ باريس ستضاعف جهودها إلى درجة الاستنفار السياسي لتسريع التسويات، لأنّ الخطر بدأ يدقّ أبوابها، وبالتالي لا تستطيع أن تبقى في موقع المراقب للأحداث عن بُعد، بل باتت معنيّة بمقاربتها عن قرب والدفع باتّجاه إنهاء الأزمات الساخنة.

ثانياً، الأزمة السورية موجودة بقوّة على الطاولة الباريسية كونها بدأت تطرق أبواب أوروبا من زاويتين متّصلتين: اللاجئين وصعود اليمين الأوروبي، فضلاً عن أنّ الرؤية الفرنسية واضحة تماماً بأنّ صعود التطرّف الإسلامي في الشرق سيقابله صعودٌ للتطرّف اليميني في الغرب، وبالتالي الحلّ الوحيد هو بإنهاء الأزمة السورية التي تشكّل المولّد الرئيسي للتطرّف،

وهذا الحلّ بالنسبة إلى الفرنسيين لا يمكن أن يكون خارج سياق استبعاد الرئيس السوري عن أيّ حلّ دائم أو انتقالي، لأنّ استمراره في السلطة تحت أيّ عنوان سيرفع من منسوب التطرّف لا العكس. وهذا الكلام قد قيلَ للرئيس الروسي في الخلوة التي عَقدها مع الرئيس الفرنسي.

ثالثاً، الأزمة اللبنانية ستُبحث تفصيلياً في اللقاء الذي سيجمع الرئيس فرنسوا هولاند والرئيس الإيراني حسن روحاني في أواخر تشرين الثاني المقبل، في ظلّ إصرار فرنسي على ضرورة تحقيق انفراج سياسي من خلال انتخاب رئيس جديد للجمهورية، يعاد معه إحياء المؤسسات الدستورية التي أصابها الترهّل بفعل الأزمات المتتالية وصولاً إلى اليوم. وتعوِّل باريس في هذا السياق على العلاقة والثقة مع طهران من أجل إنقاذ لبنان، لأنّ استمرار الوضع على ما هو عليه أصبح يشكّل خطراً سياسياً على مستقبل الوضع فيه.

ولم يتمّ التطرّق إلى الأسماء المرشّحة للرئاسة، ولكن هناك قناعة فرنسية ثابتة بأن لا خيار سوى بانتخاب مرشّح وسطي، وأنّ هذه القناعة ليست فرنسية فقط، إنّما دولية أيضاً، وكلّ المواقف المتمسّكة بخيارات أخرى ترمي إلى إطالة الأزمة الرئاسية لأجندات إقليمية.

وأمّا لجهة زيارة هولاند إلى لبنان، فهو متحمّس كثيراً لهذه الزيارة، ولن يفوِّت الفرصة لزيارة بيروت، ولكنّ الدوائر الفرنسية تريد أن تشكّل هذه الزيارة مدخلاً لحلول لبنانية. وبالانتظار تقوم باريس بكلّ جهد ممكن لتوفير الدعم المالي للبنان بغية أن يتمكّن من مواجهة قضية النازحين على أراضيه.

وكلّ مَن التقى المسؤوليين الفرنسيين تزامناً مع انعقاد الجمعية العامة للأمم المتحدة لاحَظ مدى الإشادة الفرنسية بالدولة الأردنية لناحية منهجيتها في تحضير ملفاتها.

رابعاً، الحرص الفرنسي على العلاقة مع طهران لا يعني إهمال القضايا العربية وفي طليعتها القضية الفلسطينية والعلاقة الاستراتيجية مع المملكة العربية السعودية، ورفضَ أيّ حلول على حساب العرب والسنّة، لأنّ أيّ حلول من هذا النوع ستُبقي فتيلَ الأزمة في المنطقة مشتعلاً.

وفي موازاة اللقاءات الفرنسية، سَجّلت الشخصية القيادية نفسُها أبرزَ الانطباعات عن لقاءاتها مع شخصيات لبنانية مقيمة في باريس، وأخرى صَادف وجودها في العاصمة الفرنسية.

1- الرياض وطهران تتواجهان عسكرياً، بشكل مباشر أو غير مباشر، في اليمن وسوريا، وأيّ تطور في هذا الاتجاه أو ذاك سيكون له انعكاسات في لبنان. الحرب اليمنية قد تكون طويلة، ولكنّ السيطرة السعودية أصبحت واضحة، والتقدّم ولو كان بطيئاً سيبقى سيّد الموقف.

2- الحرب السورية تحوّلت إلى أربعة حروب: حرب بين المعارضة والموالاة، حرب بين السنّة والعلويين، حرب بين السعودية وإيران، وحرب دولية مع دخول موسكو. و»العَترة» في هذه الحروب هي على الشعب السوري الذي يدفع وحده هذا الثمن الكبير.

الخبر الروسي في سوريا سيتحوّل بعد أسابيع إلى خبر ثانوي، لأنّ موسكو ستغرق في الوحول السورية ولن تتمكّن من تحقيق أيّ تغيير باستثناء إطالة أمد سقوط النظام، إلّا أنّ التطرّف سيشتدّ ويقوى في المرحلة المقبلة، وستفقد روسيا في حال واصلت دعمَها للأسد بهذا الشكل صدقيتَها لدى الدول العربية والإسلامية التي ستَعتبرها بعد فترة طرفاً غير مرغوب فيه وبدوره.

3- وجهَتا نظر ميّزتا البحث في الموضوع اللبناني: الوجهة الأولى تدعو إلى شراء الوقت والبحث عن التسويات بأيّ ثمن من أجل تقطيع المرحلة على البارد لا الساخن، ومحاولة إعادة تفعيل الحكومة ومجلس النواب وتهيئة الظروف الموضوعية لانتخاب رئيس جديد للجمهورية. وإنّ مَن تنازلَ كلّ هذه السنوات تحت عنوان «أم الصبي» لن «يغصّ» في تنازل إضافي، وبالتالي المصلحة تقتضي ترييح الساحة اللبنانية.

وأمّا الوجهة النظر الأخرى فتعتبر أنّ مقاربة الأمور من زاوية أنّ الاستقرار والحوار وتفعيل الحكومة ومجلس النواب تشكّل مصلحةً لقوى 14 آذار فقط، وأنّ «حزب الله» لا يريد اسقراراً ولا حواراً ولا تفعيلاً للحكومة والمجلس هو خطأ كبير، لأنّ الحزب في هذه المرحلة هو بأمسّ الحاجة للحوار والاستقرار والحكومة، وأنّ أجندة «التيار الوطني الحر» في هذا الملف تختلف عن أجندة الحزب، وبالتالي أيُّ تنازل أو خضوع للابتزاز هو خضوع في غير محلّه، بل خضوع للتهويل لا أكثر ولا أقلّ.

فانفراط التسوية التي يعمل عليها اليوم لن يغيّر شيئاً في المعادلة الوطنية، بل سيجد الحزب نفسه معنياً بعد أسبوعين أو ثلاثة على أبعد تقدير بالبحث عن السُبل التي تعيد الوصل مع الفريق الآخر. فهو ليس بوارد وقف الحوار مع «المستقبل» ولا الاستقالة من الحكومة ولا الخروج من الحوار الجامع.

4- التباينات بين مكوّنات 14 آذار هي من طبيعة سلطوية لا سيادية، وقابلة للعلاج من خلال الحوارات الثنائية. فـ»القوات اللبنانية»، على سبيل المثال، ليست بوارد التهاون في موضوع قانون الانتخاب، وأبلغَت كلّ المعنيين بهذا الأمر، ودعَت صراحةً إلى إعطاء هذه القضية حقّها، من منطلق أنّ استمرار التهميش المسيحي خط أحمر.

ولكن بمعزل عن التباين في هذا الملف والذي يشكّل عامل عدم ارتياح بين مكوّنات 14 آذار، إلّا أنّ القيادي المذكور لفتَ نظرَ الحاضرين إلى مسألة بغاية الأهمّية، فقال: لا يجوز إطلاقاً أن يؤدّي التباين في قانون الانتخاب وغيره مع الدكتور سمير جعجع إلى تغطية أو حرفِ النظر عن التقاطع في المسائل الاستراتيجية، حيث إنّ جعجع يشكّل رأس حربة في ثلاث قضايا أساسية: المعركة السيادية في لبنان والتي على قطعِ رأسه لا يتراجع عنها، وتاريخُه أبرز دليل على ذلك.

المعركة السورية التي يبرز فيها من أكثر المتشدّدين لإسقاط النظام السوري الذي يَعتبره مصدر خطر على سيادة لبنان ووحدة سوريا وعلى العالم العربي من زاوية تقويته للتطرّف على حساب الاعتدال.

علاقتُه الاستراتيجية مع العالم العربي، حيث إنّه القيادي المسيحي الوحيد بعد الرئيس كميل شمعون الذي يقيم علاقات بنيوية مع العمق العربي في ظلّ ثقةٍ عربية بشخصِه وتعويل على دوره السياسي.

وانطلاقاً من ذلك، لا يجوز أن تطغى «التفاصيل» الانتخابية على هذه الأبعاد الاستراتيجية، حيث توثيق التحالف مع رئيس «القوات» يشكّل مصلحة جوهرية.

5- الأزمة الماليّة في تيار «المستقبل» تتّجه نحو الحَلحلة قريباً جداً، والرئيس سعد الحريري سيعود قريباً إلى بيروت، وهو يعقد لقاءات بعيدة عن الإعلام مع ديبلوماسيين عرب وغربيين، ويتواصل بشكل دائم مع المعنيين في لبنان، ويتابع بدقّة كلّ ملفات المنطقة وتحديداً لبنان، والرياض تعوِّل على دوره في ترسيخ تيار الاعتدال في لبنان والمنطقة.

6- الاجتماعات الدورية للأمانة العامة لقوى 14 آذار ستبقى معلّقة بانتظار أن تتمكّن مكوّنات 14 آذار من إجراء قراءة موحّدة للأحداث. فالأمانة العامة هي المساحة المشتركة للجميع، ولن تتحوّل إلى مساحة خلافية في ظلّ التباينات التي تبدأ بالتسوية الحكومية والترقيات العسكرية ولا تنتهي بقانون الانتخاب، فيما ستبقى أبوابها مفتوحة للتواصل مع الجميع.

ويبقى أنّ كلّ ما يتصل بالشأن الباريسي والـ 14 آذاري سيكون محطّ متابعة دقيقة، خصوصاً لناحية لقاء هولاند-روحاني الذي سيكون الملف اللبناني حاضراً بقوة بينهما، فإمّا يشكّل خرقاً رئاسياً لبنانياً، وإمّا يبقي مصير لبنان معلّقاً على مصير الأحداث السورية.